إيران: إرادة لا تُقهر بين النصر الرمزي وتحديات الهيمنة!
منذر علي
2025 / 6 / 24 - 21:55
في حين كان البعض ينتظر سقوطها، خرج الإيرانيون، بمن فيهم الإسلاميون، القوميون، واليساريون، إلى شوارع طِهران ومدن الجمهورية الأخرى، لا ليحتفلوا بانتصار تقليدي تُقاس فيه المكاسب بالأمتار، بل ليُعلنوا انتصار الإرادة على آلة الهيمنة، وصمود الدولة في وجه أكثر عدوانية النظام الدُّوَليّ.
توقف القصف، نعم، لكن المعنى الأعمق لم يتوقف.
ففي لحظة توقف الصواريخ، خرج الشعب الإيراني يرتل الآيات قرآنية، "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ"، و يردد هتافات وطنية، وينشد أشعار شعراء إيران العظام: أبو القاسم الفردوسي، وحافظ الشيرازي، وسعدي الشيرازي، عمر الخيام، وجلال الدين الرومي. لا لأنهم لا يعرفون فداحة الخسائر، بل لأنهم، على عكس من يسكنون في هامش التاريخ، يدركون أن الصمود في وجه القوة المطلقة هو وحده الذي يمنح المعركة معناها.
سيضحك المتهافتون.
سيكتبون، ببرود تحليلي سطحي، أنَّ إيران لم تنتصر لأنها لم تُسقط تل أبيب أو تُفكك البنية النووية لإسرائيل. سيقولون: ما هذا "النصر" الذي تتحدثون عنه، وقد قُتل القادة، وتضررت المنشآت، واهتزت البنية التحتية؟
لكن هؤلاء لا يفهمون شيئًا عن طبيعة الصراع، ولا عن منطق الإمبريالية، ولا عن المعنى الرمزي للبقاء. إنهم، مخرجات جهاز الدعاية الإمبريالي، لا يعترفون بالنصر إلا حين يأتي من العواصم المنتصرة سلفًا.
فالنصر، في معادلات الهيمنة، لا يُقاس بعدد الأهداف المصابة، بل بقدرة المستهدف على عدم السقوط.
أن تبقى دولة من دول "العالم الثالث"، محاصرة منذ أكثر من أربعة عقود، واقفة على قدميها، قادرة على الرد، قادرة على توجيه ضربة موجعة لقواعد عسكرية إسرائيلية، وإحداث شلل في منشآت اقتصادية في صفد، وحيفا، وتل أبيب، وبئر السبع، وأشدود — كل ذلك من دون حماية من أحد، ومن دون غطاء دولي، ومن دون تواطؤ مع أحد، هو بحد ذاته شكل من أشكال الانتصار الأخلاقي والسياسي.
إن إيران، في هذه الجولة، لم تُحطم إسرائيل، ولم تُسقط الإمبريالية، لكنها أثبتت أن مشروع الهيمنة ليس قدَريًا، وأن الدولة التي ترفض الانحناء يمكنها أن تُحدث صدعًا في جدار القوة المهيمنة في العالم.
نعم، سقط قادة، وتضررت مواقع نووية، وربما أُخلي بعضها استباقيًا، لكن النظام لم ينهَر، ولم يُعلن الاستسلام، ولم يعد الشاه الصغير، ابن الشاه الكبير، الموالي لإسرائيل، ولم تُرفع راية بيضاء.
الذين ابتهجوا فجر الثالث عشر من يونيو، أولئك الذين رأوا في القصف الإسرائيلي–الأمريكي تصفية حساب تاريخي مع الثورة الإيرانية، يختنقون اليوم مع شروق شمس الرابع والعشرين من يونيو.
لقد ظنوا أن الإمبريالية ستعيد ترتيب الشرق الأوسط وتحكمه من جديد عبر وكلائها المحليين، لكنهم فشلوا في قراءة التاريخ كما فشلوا في فهم الجغرافيا: لا يمكن لدولة تُولد من رحم ثورة شعبية عارمة، أن تُقصف حتى الموت، لأنها لا تُختزل في أبنية ومرافق، بل في وعي جمعي لا تمحوه الصواريخ.
لقد قالت إيران، على لسان قادتها، ما لا تجرؤ كثير من الدول على قوله: "نحن لا نعتدي، لكننا لا نسمح بالعدوان".
وفي هذا الموقف، يتحقق المعنى السياسي الأسمى: أن السيادة لا تمنح، بل تُنتزع، وأن الكرامة الوطنية ليست امتيازًا، بل حق يُدافع عنه، ولو وحدك، ولو في وجه أعظم ترسانة حربية عرفها التاريخ.
إن توقف الحرب لا يعني انتهاء المعركة.
إيران اليوم، على الرغم من الجراح، لا تزال تمتلك بنيتها العلمية، ومشروعها النووي المدني، وترسانتها الصاروخية، بما في ذلك البالستية والفرط صوتية، ولم تُجبر على توقيع اتفاق إذلال، ولم تُحاصر إرادتها.
الرسالة التي فشلت الإمبريالية في إيصالها هي أن الهيمنة وحدها لا تكفي لإخضاع من يؤمن بحقه في الوجود السياسي المستقل.
هذه الحرب، كما كل حروب الهيمنة، لم تكن تهدف إلى تدمير إيران فقط، بل إلى تدمير الفكرة التي تمثلها إيران في هذه اللحظة التاريخية: استقلال القرار، ورفض التطبيع، واستمرار دعم فلسطين، وامتلاك مشروع استراتيجي خارج عباءة واشنطن وتل أبيب.
وهنا نصل إلى النقطة الجوهرية:
العدوان لم يكن على "نظام ولاية الفقيه" فقط، بل على ما تبقى من هامش حرية في عالم يُعاد تشكيله على مقاس السوق، وعلى مقاس الحلفاء الصامتين.
ولذلك، فإن من احتفلوا بالعدوان، هم الذين أزعجهم صوت المقاومة، لا شكل النظام.
هم الذين أرادوا لإيران أن تسقط، لا لأنها تقمع شعبها، بل لأنها لا تقمع ضميرها السياسي، ولم تنضم لجوقة المطبّعين، ولم تتخل عن فلسطين لتُقبل على موائد "السلام الإبراهيمي".
في عالمٍ تتراجع فيه القيم، وتُشرعن فيه الإبادة، وتُسوّق فيه الهزيمة بصفة حكمة، يبدو أن مجرد البقاء — بشرف — هو نصر.
وإيران، في هذا السياق، لم تنتصر عسكريًا فقط، بل انتصرت أخلاقيًا: لأنها لم تُخضع شعبها، ولم تُساوم على سيادتها، ولم تُغيّر جلدها لتُقبل في نادي "الأنظمة العاقلة".
الذين احتفلوا بالقصف، اليوم يبتلعون مرارة فشلهم.
أما من راهن على صمود الكرامة، فهو يرى في هذا التوقف المؤقت للحرب مجرد فصل من فصول طويلة، عنوانها:
أن لا أحد يُهزم ما دام لم ينكسر.