العدوان الإمبريالي على إيران بين اليسار الحقيقي واليسار الزائف!
منذر علي
2025 / 6 / 23 - 01:12
من الخطأ الفادح أن نقرأ المواقف السياسية بمعزل عن بنيتها الأيديولوجية. فالموقف من العدوان الأمريكي أو الإسرائيلي على دولة مثل إيران ليس مجرد خِيار سياسي، بل اختبار أخلاقي حاسم، يكشف عمق الالتزام الفعلي بمعايير السيادة والعدالة ورفض منطق القوة.
في مثل هذه اللحظات الحاسمة، تنكشف الوجوه.
اليسار الحقيقي في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، بل وحتى في بعض زوايا أوروبا أدان العدوان الصهيوني–الأمريكي على إيران، لا لأنه يتماهى مع النظام الإيراني أو يتبنى مشروعه السياسي، بل لأن المبدأ واضح: لا شرعية لأي عدوان خارجي على دولة ذات سيادة، لا سيما حين يتم خارج أي إطار قانوني دُوَليّ، وبدوافع تُمليها منظومة الهيمنة الإمبريالية لا مبادئ القانون.
وقد عبّر عن هذا الموقف بوضوح الزعيم البريطاني اليساري جيريمي كوربن اليوم، حين قال:
"الهجمات غير القانونية التي تشنها الولايات المتحدة على إيران تتسم بتهور يفوق التصور — وتهدد أمن البشرية في جميع أنحاء العالم. كان من الممكن اللجوء إلى الدبلوماسية، ولكن بدلًا من ذلك، أشعلت دولتان عدوانيتان نوويتان، إسرائيل والولايات المتحدة، حربًا كارثية."
في المقابل، برز ما يمكن أن نُطلق عليه — دون تردد — "اليسار الزائف":
هذا التيار الذي تبنّى شعارات العدالة والمساواة طويلًا، لكنه تهاوى لحظة أن اصطدمت هذه الشعارات مع مصالح النخب الإمبريالية أو مع سرديات القُوَى الرجعية في الخليج.
هؤلاء ليسوا يساريين، بل موظفو خطاب، يؤدون أدوارهم في مسرح السلطة، يلبسون رداء "التحليل"، في حين يعيدون إنتاج منطق الهيمنة بأدوات ناعمة، محمولة على لغة حقوق الإنسان والديمقراطية.
في لحظة القصف، لم يتساءل هؤلاء عن شرعية العدوان، ولا عن رمزيته، ولا عن الرسالة التي يُراد إيصالها للعالم: أن الدولة التي تخرج عن الطاعة، وتبني مشروعًا صناعيًا وعسكريًا مستقلًا، وتدعم القضية الفلسطينية، وتواجه الحصار، يمكن أن تُقصف بلا عقاب.
بل انشغلوا في تبرير الهجوم، مستخدمين مفردات مهترئة:
قالوا إن إيران "ثيوقراطية"، وإنها "تتدخل" وتمزق "الدولة القومية العربية"، وإن "دول الخليج توحد الصف العربي" — وكأن القصف يُقاس بطبيعة النظام، لا بشرعية السلوك الدُّوَليّ.
لكنهم لم يسألوا: من الذي يملك حق الاعتداء؟ من الذي يقرر من يعيش ومن يُمحى؟ من الذي يُقصف ويُطلب منه الصمت؟
إن هؤلاء لا يريدون من إيران الإصلاح، بل الاستسلام. يريدونها أن تُطبّع، أن تنخرط في السوق الحرة، أن تُنكر شيعتها، أن تعتنق "الإسلام السني المناسب" المتوائم مع المِزَاج الإمبريالي، أن تنسى فلسطين، وتصفق حين تُضرب، وتصمت حين تُحاصر.
يريدونها نسخة من أنظمة الخليج: غنية، صامتة، تابعة، ومتعفنة.
نعم، نختلف مع بنية "ولاية الفقيه"، التي أبتكرها آية الله خميني، وننقد ممارسات إيران داخليًا وخارجيًا، لكن لا يمكن أن نغض الطرف عن حقيقة أن طهران تمثل — منذ 1979 — حالة استثنائية في رفضها الانخراط في منظومة الهيمنة الغربية.
لقد نشأت الدولة الإيرانية المعاصرة عن واحدة من أعظم الثورات الجماهيرية الحديثة، واجهت حصارًا مستمرًا، خاضت حروبًا، وتعرضت لعقوبات خنقت اقتصادها، لكنها لم تنهر بل طوّرت منظومتها الصناعية والعسكرية، ورفضت الاعتراف بإسرائيل.
المشكلة ليست في "ثيوقراطيتها"، بل في استقلالها.
اليسار الزائف، ومعه قوميون متكلسون، وإسلاميون طائفيون، اجتمعوا جميعًا على شماتة بائسة، وتبرير ضمني للعدوان، وكأن القصف الأمريكي–الإسرائيلي على إيران هو خطوة نحو "تحرير العرب" أو "مواجهة الانقسام".
زعموا أن دول الخليج "توحد اليمن" و"تحرر السودان" و"تنشر الديمقراطية في تونس والجزائر" و"تحمي لبنان" وتطور الصومال، في حين تتسبب إيران في الانقسام!
لكنهم لم يسألوا أنفسهم: من أقام السجون السرية في اليمن؟
ومن دمّر البنية التحتية؟ ومن ضخّ الأموال وأقام المليشيات لدعم الانقلابات في اليمن بعض البلدان العربية؟
ومن موّل الاحتلال الصهيوني سياسيًا واقتصاديًا؟
وعلى الرغم من كل خلافات إيران البنيوية مع العرب، من وقف إلى جانب فلسطين، ورفض الإبادة في غزة، وأصرّ على أن المقاومة ليست إرهابًا، بل حق مشروع؟
اليسار الزائف لا يملك مشروعًا تحرريًا. يملك فقط خطاب صالونات، مُعقّم، خالٍ من التوترات الحقيقية، يُناسب دوائر التمويل والنشر، لا ساحات النضال.
يدّعي التعددية، لكنه لا يحتمل نموذجًا لا يشبهه. يُدين القمع في طهران، لكنه يصمت عن القصف في صنعاء وغزة ولبنان ودمشق.
و يطعن في إيران، لا لأنها استبدادية، بل لأنها مقاومة.
أما اليسار الحقيقي، فهو الذي يرى في كل عدوان خارجي على دولة مستقلة — مهما كان شكل نظامها — اعتداءً على مبدأ السيادة، وعلى إمكانية بناء عالم محكوم بالقانون والعدالة، لا بموازين القوة والرضا الأمريكي.
إن الاصطفاف مع إيران في هذه اللحظة لا يعني المصادقة على سياساتها، بل يعني أن نُعلن بوضوح أن العدالة لا تتجزأ، وأن الدفاع عن سيادة الدولة ضد الهيمنة هو شرط أخلاقي، لا خيار سياسي.
فالحق في الاستقلال لا يُمنح من واشنطن أو تل أبيب، بل يُنتزع، ويُصان، ويُدافع عنه.
المجد للشعب الإيراني المقاوم للعدوان الإمبريالي والصهيوني!