الاتحاد العام التونسي للشغل: بين إرثه الوطني وحاضره ومستقبله النضالي


جهاد عقل
2025 / 6 / 19 - 18:30     

منذ تأسيسه في 20يناير العام 1946، لم يكن الاتحاد العام التونسي للشغل مجرد منظمة نقابية تطالب بتحسين الأجور وظروف العمل، بل لعب دوراً محورياً في صياغة التاريخ الاجتماعي والسياسي للبلاد. فهو من المكونات الأساسية التي ساهمت في بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال، كما كان فاعلاً أساسياً في لحظات التحول الكبرى، أبرزها الثورة التونسية عام 2011، وصولاً إلى دوره المؤثر في "الحوار الوطني" الذي منح البلاد جائزة نوبل للسلام عام 2015.

لكن الاتحاد التوني للشغل ، الذي تميز لعقود بعلاقته المركبة مع السلطة، يجد نفسه اليوم في مفترق طرق خطير. في ظل حكم الرئيس قيس بن سعيد، ومع ما تُعرف بـ"إجراءات 25 تموز / يوليو 2021"، تغيرت المعادلة السياسية في تونس بشكل جذري. وبات الاتحاد اليوم، من وجهة نظر كثيرين، آخر ما تبقى من قوى توازن قادرة على الوقوف بوجه تركيز السلطات في يد واحدة. وهو ما يفسر تصاعد التوتر بين الاتحاد وحكومة بن سعيد في السنوات الأخيرة.يتمثل ذلك في ما يلي:

أولاً: الدور الاجتماعي التاريخي للاتحاد
منذ بداياته، لم يقتصر نشاط الاتحاد على الجانب النقابي، بل انخرط في معارك وطنية واجتماعية كبرى. فقد ساهم في دعم مقاومة الاستعمار الفرنسي، ولعب دوراً في الدفاع عن استقلالية القرار التونسي بعد الاستقلال، وصولاً إلى مشاركته في صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية في عهد كل من الرئيس الحبيب بورقيبة والرئيس زين الدين بن علي، وإن بشكل متفاوت.
اجتماعياً، تبنى الاتحاد قضايا الطبقة العاملة والفئات المهمشة، ودافع عن القطاعات العمومية، ورفض محاولات التفكيك والخصخصة في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة والنقل. وكان له دور في بناء الطبقة الوسطى التونسية، التي شكلت لفترة طويلة أحد أهم عوامل الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.

ثانياً: بين ثورة 2011 والحوار الوطني
كان للاتحاد دور واضح في حماية الثورة التونسية من الانزلاق إلى الفوضى أو الصراع الأهلي. فرغم أنه لم يكن المبادر إلى انطلاق الحراك، إلا أنه ساهم في تأطير المطالب الشعبية وإدارتها في سياق سلمي. وقد تصاعد هذا الدور خلال فترة التوترات السياسية بين القوى الإسلامية والعلمانية، حين لعب الاتحاد دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة، وأطلق "الحوار الوطني" سنة 2013 بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني، مما أنقذ البلاد من أزمة سياسية خانقة.
وقد منح هذا الدور للاتحاد شرعية اجتماعية وأخلاقية مضاعفة، أكّدته جائزة نوبل التي نالها "الرباعي الراعي للحوار"، ما جعل الاتحاد يبدو لفترة وجيزة وكأنه الفاعل السياسي الأهم في البلاد، رغم أنه لم يكن حزباً سياسياً.

ثالثاً: التوتر مع حكومة قيس بن سعيد
مع وصول الرئيس قيس بن سعيد إلى السلطة، ثم إعلانه الإجراءات الاستثنائية في 25 تموز/ يوليو 2021، دخلت تونس في مسار جديد قائم على "الديمقراطية المركزية" وتهميش الأحزاب والنقابات. وقد تبنت حكومة بن سعيد خطاباً شعبوياً ضد ما تسميه "الطيف القديم"، الذي يُنظر إليه كمعرقل للإصلاح، وكان الاتحاد أحد أبرز من شملهم هذا التوصيف.
وقد تصاعدت حدة الخلاف حين رفض الاتحاد المضي في "الحوار الوطني" على الطريقة الرئاسية، معتبراً أن الرئاسة تريد حواراً شكلياً يشرعن قرارات أحادية. كما رفض الاتحاد جملة الإصلاحات الاقتصادية التي طرحتها الحكومة، وخاصة التوجهات المرتبطة بخصخصة المؤسسات العمومية وتقليص الدعم، معتبراً أنها تنفذ إملاءات صندوق النقد الدولي على حساب الطبقة العاملة.
وردت السلطة باتهام الاتحاد بعرقلة التنمية، وفتحت ملفات قضائية ضد بعض قياداته بإتهامات واهية ، وشنت حملة إعلامية لشيطنته، في حين تعرض عدد من النقابيين للاعتقال أو التضييق. وهي ممارسات رأى فيها كثيرون محاولة واضحة لتحجيم دور الاتحاد وإخراجه من المعادلة الوطنية.

رابعاً: التحديات التي تواجه الاتحاد
بالرغم من دوره النقابي الهام محلياً ، يبرز الأتحاد التونسي للشغل كقوة نقابية هامة على الصعيدين العربي والعالمي ، كل ذلك في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهه محلياً ومنها:
1. الضغط السياسي والقضائي: يواجه الاتحاد حملة رسمية تهدف إلى تفكيك نفوذه داخل مؤسسات الدولة وشيطنته أمام الرأي العام وكأنه قوة تقف عائقاً في سبيل تطور تونس سياسياً وإجتماعياً.
2. الانقسام الداخلي: كون الإتحاد التونسي للشغل قوة ديمقراطية منذ تأسيسه حتى اليوم من الطبيعي أن تظهر قوى نقابية معارضة في صفوفه يعاني، وعناك من يصف تلك المعارضة بأنها تباينات داخلية بين تيارات إصلاحية وتيارات محافظة،الأمر الذي يُعتَقد بأن أعداء الإتحاد في السلطة الحاكمة يحاولون إبراز تلك التباينات بأنها خلافات،وهناك من يعتقد بأن ذلك الوضع قد يضعف جبهته في مواجهة السلطة.
3. الرهان الاجتماعي المتغير: هناك من يقول بأن فئة من الشباب التونسي لا ترى في الاتحاد ممثلاً لطموحاتها، بل تعتبره مرتبطاً بمنظومة تقليدية لم تعد تعبر عن العصر ، مما ينفيه الإتحاد خاصة في ظل إتساع تنظيماته النقابية بين الشباب .
4. ضغوط التمويل والدعم الخارجي: في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، لم يعد الاتحاد قادراً على تأمين موارد حركته بسهولة، لا سيما مع تعطل الحوار مع الحكومة، الا أن الإتحاد يصمد في ظل ذلك الحصار الحكومي ومحاولات الحكومة إفشال الحوار الإجتماعي وتوقيع إتفاقيات عمل جماعية.

السؤال المطروح :إلى أين يتجه الاتحاد التونسي للشغل؟
رغم كل التحديات، لا يبدو أن الاتحاد التونسي للشغل سيتخلى عن دوره الوطني. فمع استمرار الأزمة الاقتصادية، وغياب التوافق السياسي، وعودة الدولة إلى المركزية الصارمة، يبقى الاتحاد القوة المدنية الأبرز القادرة على التعبير عن هموم المجتمع والدفاع عن التوازن الاجتماعي.
لكن استمراره في هذا الدور يتطلب إعادة تجديد استراتيجيته، وتحديث أدوات عمله، والانفتاح أكثر على الجيل الجديد من النقابيين والمجتمع المدني. فإما أن يتحول الاتحاد إلى "قوة مقاومة ذكية" قادرة على فرض توازن جديد، أو يُدفع تدريجياً نحو التهميش في مشهد سياسي لا يتسع لأكثر من صوت واحد.
في النهاية، مستقبل الاتحاد العام التونسي للشغل هو جزء لا يتجزأ من مستقبل تونس ذاتها. فإذا ما تم تهميشه بالكامل، فإن البلاد تخاطر بفقدان أحد أعمدة الاستقرار القليلة المتبقية في زمن تتراجع فيه كل المؤسسات الوسيطة،برأينا أن تلك المحاولات لتهميش منظمة نقابية لها جذور راسخة في المجتمع التونسي سوف يفشلها الإتحاد ليبقى القوة النقابية الهامة في تونس .