عمال التصاريح..ورغيف الحزن المخبوز بوجع الكرامه


ليث الجادر
2025 / 6 / 19 - 01:01     

في الأرض التي تقاوم منذ قرن، لا يجد العامل الفلسطيني نفسه في موقع البطولة، بل في موقع الابتلاع اليومي، دون مقاومة تُذكر. يُستنزف بصمت، ويُستغل بصبر، ويُدفن حيًا تحت عنوان: "تصريح عمل". سواء كان من غزة أو الضفة الغربية، فمصيره واحد: إما العمل في إسرائيل وفق شروط الإذلال، أو الموت جوعًا في بلده المُحتل والمقموع إداريًا.

حتى 6 أكتوبر 2023، كان نحو 170 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية يدخلون إسرائيل يوميًا أو بتصاريح موسمية، ويشكّلون العمود الفقري لقطاعات البناء والزراعة والصناعات الخفيفة. في الوقت نفسه، كان هناك قرابة 18–20 ألف عامل من غزة يعملون في إسرائيل، أغلبهم بتصاريح "تجار"، وهي تسمية تضليلية تُخفي واقعهم كعمّال يوميين في أعمال شاقة ومُهينة، وبدون أي ضمان اجتماعي أو حقوق نقابية.

كان هؤلاء العمّال مجتمعين يُمثلون الرافعة المالية الكبرى للاقتصاد الفلسطيني الأسير، واليد التي تحرّك سوق الاستهلاك في الضفة وغزة، لكنها يد تُنهك وتُهان وتُستغل يوميًا تحت مظلة تنسيق أمني واقتصادي منظّم.

حين اندلعت الحرب على غزة، انهار هذا النظام الاستغلالي بالكامل، لكنه لم يُستبدل بتحرر، بل بعقوبة جماعية شاملة:
- في غزة: تم اعتقال أكثر من 4500 عامل غزي كانوا متواجدين داخل إسرائيل وقت الهجوم. احتُجزوا في ظروف مهينة دون محاكمات، وتعرضوا للتعذيب الجسدي والنفسي، ثم رُحّلوا قسرًا إلى غزة عبر معبر كرم أبو سالم. ومنذ ذلك التاريخ، لم يُسمح لأي عامل من غزة بالعودة للعمل داخل إسرائيل.
- في الضفة: جرى تجميد مؤقت لكافة التصاريح بعد الحرب، ثم أُعيد تشغيلها تدريجيًا بشروط أمنية مشددة، وتم تقليص عدد التصاريح إلى ما يُقدَّر بـ21 آلف فقط، واستُثنيت مناطق كاملة من التصاريح لأسباب أمنية، أبرزها جنين، مخيمات نابلس، وطولكرم. كما تفشّت سوق سوداء للتصاريح، يُدفع فيها أحيانًا ما يزيد عن 3000 شيكل عبر سماسرة يعملون في ظل صمت رسمي فلسطيني مخزٍ.

مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يشكلون هذه الطبقة العاملة الهائلة، باتوا بلا صوت سياسي، ولا تمثيل نقابي حقيقي، ولا حتى حماية إعلامية. تحوّلوا إلى كائنات اقتصادية بلا وجه، هدفهم فقط "تأمين لقمة العيش"، حتى لو كانت مرهونة بتوقيع ضابط إسرائيلي أو تاجر تصاريح في رام الله.
لا فصائل تسندهم. لا خطابات تستوعبهم. لا مقاومة تتبناهم. فقط جهاز أمني يديرهم، وسوق عمل يتاجر بهم، وسلطة عاجزة أو متواطئة تتفرج على انكسارهم.

منظومة "العمل مقابل الخضوع" ليست قدرًا، بل مشروعًا سياسيًا إسرائيليًا متكاملًا، يُنتج فلسطينيًا مُنضبطًا، محتاجًا، يائسًا من كل خيار سوى الرضوخ.
- لا تحرر إذا بقي 190 ألف عامل فلسطيني تحت رحمة تصاريح الاحتلال.
- لا كرامة إذا استمر التعامل معهم كأرقام في ملف أمني.
- لا اقتصاد وطني إذا كانت كل عائلة في غزة أو الضفة تنتظر كل صباح أن يُفتح الحاجز.

العمال الفلسطينيون ليسوا ضحايا فقط.
إنهم الخزان الحقيقي لأي إمكانية تحرر شعبي جماعي.
لكنهم لن يتحرروا بالنيابة، ولا عبر شعارات جوفاء.
التحرر يبدأ من كسر نظام التصاريح، من تنظيم الذات خارج المنظومة، من فهم أن اليد العاملة هي أيضًا يد مقاومة.
لن يكون هناك تحرر حقيقي… ما دام العامل الفلسطيني يضطر كل صباح أن ينحني أمام بوابة احتلال… كي يُسمح له أن يعيش.

ما يزيد عن 18% من مجمل الطبقة العاملة الفلسطينية كانت، حتى ما قبل الحرب الأخيرة، تعمل داخل إسرائيل أو في المستوطنات. نحو 190 ألف عامل من أصل 1.05 مليون يشكلون عمّال فلسطين، غالبيتهم العظمى من الضفة الغربية، يذهبون يوميًا إلى حيث يعملون تحت إشراف أمن الاحتلال، ويعودون إلى أوطانهم التي يُمنعون من بنائها.

هذا الرقم لا يعني فقط تبعية اقتصادية خطيرة، بل يُظهر كيف تحوّلت فلسطين إلى مستودع للعمالة الرخيصة في خدمة البنية الاستعمارية ذاتها. فلم تَعُد إسرائيل بحاجة إلى الاستيطان الكامل أو الاحتلال الشامل، طالما أنها تحكم الفلسطيني من بوابة الراتب، وتخضعه من فتحة تصريح