هرمز..بين ارتجال التوظيف وحكمة التلويح
ليث الجادر
2025 / 6 / 15 - 17:52
مضيق هرمز.. النقطة الجيوسياسية المتفردة
في عالم يمور بالممرات الاستراتيجية، من قناة السويس إلى مضيق البوسفور، ومن باب المندب إلى ملقا، يظل مضيق هرمز يحتفظ بتفوق نوعي لا تضاهيه أي عقدة جيوسياسية أخرى. صحيح أن انقطاع أي من هذه الممرات قد يؤدي إلى تعثر مؤقت في سلاسل التوريد، لكن لا شيء يعادل أثر تعثر – وليس انقطاع – تدفق النفط والطاقة عبر مضيق هرمز.
ذلك أن الطاقة، بخلاف السلع، تمثل الدم الجاري في شرايين الصناعة الحديثة، وأي اختناق فيها يفضي إلى شلل عالمي حقيقي في المصانع، وسائل النقل، الشبكات الكهربائية، بل وحتى في المنظومات العسكرية.
يمر عبر مضيق هرمز يوميًا ما يقارب 20% من تجارة النفط العالمية، وهو ما يجعله أكثر الممرات البحرية حيوية في العالم من حيث مساهمته في أمن الطاقة الدولي. من هنا، لا يُعد مضيق هرمز مجرد عقدة بحرية أو طريق ناقلات، بل هو أداة استراتيجية حاسمة في ضبط أسعار النفط عالميًا، وتحديد سقف استقرار الاقتصاد العالمي.
وبهذا المعنى، فإن أي قوة قادرة على التأثير في هذا المضيق، ولو جزئيًا، تُمنح ورقة تفاوضية من الطراز الثقيل، وهو ما ينطبق على إيران، التي ما فتئت تلوّح بإمكانية غلق المضيق كأداة ردع أو ابتزاز سياسي.
إيران وإمكانية التحكم بمضيق هرمز
لا تنبع قوة إيران في هذا الملف من تفوق عسكري مباشر، بل من موقعها الجغرافي الصريح: فهي تطل مباشرة على الضفة الشمالية للمضيق، وتنتشر على طول ساحله الشرقي المرتفع والمعقد طوبوغرافيًا. هذا يمنحها قدرة تكتيكية على زرع الألغام، استخدام الزوارق السريعة، نشر الصواريخ الساحلية، والمراقبة الدائمة عبر الطائرات المسيّرة.
يمتلك الحرس الثوري الإيراني وحدات بحرية متمرسة في هذا النوع من الحروب غير المتكافئة، ويملك صواريخ مثل "خليج فارس"، و"نور"، و"فاتح"، وهي قادرة نظريًا على تهديد السفن المارة في المضيق. كما أجرت إيران تدريبات عدة على إغلاق المضيق أو محاكاة الهجمات عليه، ما يعزز جدية التهديد.
لكن هل تملك طهران حقًا القدرة على "غلق" المضيق؟ أم أنها فقط تملك القدرة على تهديده بشكل دوري ومؤلم دون إغلاق تام؟
ميزان القوى: إيران في مواجهة العالم
رغم ما تمتلكه إيران من أدوات ضغط وقدرات تكتيكية، إلا أن توازن القوى في هذه المنطقة لا يميل لصالحها بقدر ما يضعها في حالة ردع متبادل مع القوى الغربية. فعلى الطرف الآخر، تقف منظومة عسكرية متفوقة ومنظمة تضم الولايات المتحدة وحلفاءها، مستعدة لتأمين المضيق بكفاءة عالية.
التفوق العسكري للولايات المتحدة وحلفائها
تتمتع الولايات المتحدة بوجود عسكري كثيف ومترسخ في منطقة الخليج، يشمل قواعد استراتيجية في قطر (قاعدة العديد الجوية)، الكويت، البحرين (مقر الأسطول الخامس)، والإمارات. هذا الانتشار يمكّنها من شن عمليات بحرية وجوية واسعة في أي لحظة، وهو مصمم خصيصًا لتأمين خطوط الملاحة الحيوية ومراقبة التحركات الإيرانية بدقة.
وإلى جانب واشنطن، تلعب بريطانيا وفرنسا دورًا محوريًا في تأمين الممرات المائية في الخليج.
فبريطانيا، بوصفها حليفًا وثيقًا للولايات المتحدة، تحتفظ بوجود عسكري متقدم في سلطنة عمان، أبرز شركائها الاستراتيجيين في المنطقة. ويشمل هذا الوجود:
- مواقع تدريب وتمركز لوجستي تستخدمها القوات البريطانية ضمن اتفاقيات دفاعية ثنائية.
- الأهم من ذلك، قاعدة الدقم، وهي منشأة بحرية–عسكرية مشتركة، قادرة على استقبال حاملات الطائرات والمدمرات، وتمنح البحرية الملكية البريطانية منفذًا عمليًا على بحر العرب، وبوابة خلفية تطل على مدخل مضيق هرمز من الجنوب.
أما فرنسا، فقد أنشأت أول قاعدة عسكرية دائمة لها خارج أوروبا منذ حقبة الاستعمار، في العاصمة الإماراتية أبوظبي عام 2009، تحت اسم "معسكر السلام" (Camp de la Paix). ويتوزع هذا الوجود على ثلاثة قطاعات:
- قاعدة بحرية في ميناء زايد تُمكن فرنسا من إسناد فرقاطاتها والتحرك سريعًا باتجاه المضيق.
- قاعدة جوية في مطار الظفرة تُشغّل مقاتلات Rafale وMirage 2000-5، ما يمنح باريس قدرة رد جوي فوري.
- معسكر بري يضم كتيبة مدرعة مجهزة بدبابات Leclerc، يساهم في تعزيز الجاهزية الميدانية.
بالإضافة إلى ذلك، تُشرف فرنسا على قيادة المهمة الأوروبية لحماية الملاحة في مضيق هرمز (EMASoH/AGENOR)، من داخل الإمارات، مما يضفي بعدًا تنسيقيًا دوليًا على وجودها.
كل هذه العناصر مجتمعة تؤكد أن أي تحرك إيراني لتهديد المضيق، لن يواجه برد أمريكي منفرد، بل باستجابة جماعية عالية الجاهزية من تحالف متنوع القدرات.
خاتمة: بين الارتجال والخيار الاستراتيجي
في ضوء ما تقدم، لا بد من التمييز بين الخطاب الإيراني الموجه للاستهلاك الداخلي أو الاستعراض السياسي، وبين السياسات الفعلية التي تنطوي على حسابات دقيقة لتوازن الردع والمواجهة.
فقد شهدنا في الأسابيع الأخيرة تصاعدًا في دعوات بعض البرلمانيين الإيرانيين، وأحيانًا مسؤولين من الصف الثاني، إلى إغلاق مضيق هرمز ردًا على الاستفزازات الإسرائيلية أو التواطؤ الأمريكي الغربي. لكن هذه الدعوات تبقى، في جوهرها، ارتجالية، انفعالية، وخارج حسابات الدولة العميقة في إيران. إنها دعوات غير مسؤولة لأنها تغفل المعادلة الكبرى: إغلاق هرمز لا يستدرج إسرائيل، بل يستدرج النظام الدولي بأكمله إلى مواجهة مع إيران.
وفي ذلك، خدمة مباشرة للمصلحة الإسرائيلية التي تتطلع دومًا إلى تحشيد الغرب خلفها في صراعها مع طهران، تحت ذريعة حماية الأمن العالمي، لا الدفاع عن تل أبيب فحسب.
أما في حال صدور تصريح رسمي عن مسؤول حكومي إيراني من الصف الأول – كوزير الدفاع أو الخارجية أو حتى الرئيس – يشير فيه إلى نية وليس تنفيذًا فوريًا لإغلاق المضيق، فإن الرسالة عندها تكون مختلفة جذريًا:
إيران لا تلوّح بالقوة لحسم نزاعها مع إسرائيل، بل تستخدم هرمز كأداة لفرض تدخل دولي لفك الاشتباك، ولإعادة ملف الاتفاق السلمي والمفاوضات النووية إلى الطاولة، ولكن هذه المرة من بوابة الخطر لا التهدئة.
إن مضيق هرمز، بهذا المعنى، ليس مجرد قناة مائية، بل هو شيفرة تفاوض، وأداة توازن، وحدٌّ فاصل بين الردع والانتحار السياسي