الموقف الجماهيري في المواجهة بين اسرائيل وايران..عبء أم رصيد ؟!
ليث الجادر
2025 / 6 / 14 - 13:01
في ذروة المواجهه المتصاعده بين إسرائيل وإيران، وسط تهديدات مباشرة وضربات غير معلنة، ومع اتساع دائرة الاشتباك نحو جبهات الوكلاء، تبرز معادلة جديدة لا تقل حدة عن الحرب الصاروخية ذاتها: معركة الصبر الجماهيري. فبينما ينشغل المحللون بتقدير عدد الصواريخ ومواقع الدفاعات، يبقى العامل الشعبي – وإن بدا خاملاً – أحد أقوى موازين الكسر أو التماسك. وهنا، تبدأ المفارقة.
في خضم هذا التصعيد، يبدو من السذاجة اختزال ميزان القوى إلى المقاييس العسكرية التقليدية أو حتى إلى قدرات الردع التقني وحدها. فالمواجهة الدائرة، ، تخفي تحتها توازنًا أكثر خطورة وتعقيدًا: توازن "الإكراه الجماهيري"، حيث يصبح الموقف الشعبي أحد العوامل الحاسمة في ترجيح كفة أحد الطرفين، لا بوصفه فاعلًا مستقلًا، بل بوصفه قوة تابعة لمدى قدرة السلطة على ضبطه أو توظيفه.
في النموذج الإسرائيلي، يكمن التناقض في أن الجماهير التي يتم الادعاء بتمثيلها هي نفسها التي لا يمكن احتمال غضبها. فإسرائيل، بوصفها ديمقراطية ليبرالية منضبطة نسبيًا داخليًا، لا تمتلك الترف الإيراني في قمع أو تحييد الرأي العام. الجماهير الإسرائيلية ليست أداة تعبئة، بل أداة مساءلة، ولهذا فإن استمرار التهديد الصاروخي، أو حتى مجرد الإحساس بضعف الردع، يكفيان لخلق تصدعات في الداخل الإسرائيلي قد تطيح بأي حكومة.
بالتالي، يجد نتنياهو نفسه مصيريًا أمام معادلة لا تقبل التأجيل: لا بد من تركيع إيران، أو على الأقل إظهار ذلك للرأي العام. هذا الإكراه الداخلي لا يسمح له بالمناورة طويلاً في ظل حرب استنزاف قد تتضخم فجأة إلى مواجهة مفتوحة، تتآكل فيها الحاضنة الشعبية، ويظهر الجيش الإسرائيلي وكأنه عاجز عن حماية الداخل.
في المقابل، تتعامل إيران ببرود استراتيجي واضح. لا تسعى إلى تركيع إسرائيل، بل إلى إفشال مشروعها. الحرب بالنسبة لطهران ليست قرارًا عاجلًا، بل مسار طويل من التآكل المنهجي في ثقة إسرائيل بجبهتها الداخلية. الجماهير الإيرانية، وإن كانت تعاني من ظروف اقتصادية خانقة، إلا أنها مُمَأسسة أيديولوجيًا داخل خطاب الصمود والمظلومية، وتخضع إلى رقابة أمنية وإعلامية تحول دون تحوّل السخط إلى تمرد فعلي.
الأهم من ذلك أن إيران تمتلك أدوات التفعيل الجماهيري خارج حدودها. من لبنان إلى العراق، ومن اليمن إلى غزة، يمكن للنظام الإيراني أن يفعّل جمهورًا آخر أكثر طواعية وأقل تكلفة سياسية — جمهور لا يسقط حكومة ولا يحرج نظامًا، بل يحرق جبهات لصالحه.
إيران، نظريًا، قادرة على شن ضربة صاروخية كثيفة تجاه إسرائيل، وقد تمتلك أكثر من 2000 صاروخ باليستي، بعضها عالي الدقة. ومع أن فعالية هذا المخزون مقيدة فنيًا بما يُعرف بـ"الإغراق الصاروخي" (إطلاق عدد كبير دفعة واحدة لاختراق منظومات الدفاع الجوي)، فإن إيران لا تلجأ لهذا الخيار رغم إمكانيته.
السبب في ذلك ليس تقنيًا فقط، بل سياسي–استراتيجي: طهران لا تريد أن تكون المبادِرة في كسر السقف، بل تسعى إلى أن تظل في موقع القادر الممتنع، لتحتفظ بورقة الردع القصوى دون أن تتحول إلى سبب لتشكيل تحالف دولي هجومي ضدها. هي تفهم تمامًا أن لحظة استخدام كل الأوراق تعني اقتراب نهاية اللعبة — وهي لم تحِن بعد.
الفرضية الحاسمة هنا هي التالية: إذا تحولت المواجهة إلى حرب استنزاف طويلة، فإن الموقف الجماهيري سيتحول من رصيد إلى عبء. لكن هذا العبء لا يتوزع بالتساوي.
إسرائيل، بسبب حساسيتها الاجتماعية والاقتصادية، لا تحتمل نزيفًا طويلًا دون تفكك داخلي سياسي. في حين أن إيران، ولو واجهت ضغطًا اقتصاديًا واجتماعيًا أقسى، إلا أنها تملك أدوات أكثر صرامة في القمع والضبط والتبرير العقائدي. وبالتالي، في المدى الطويل، يكون نتنياهو هو المطارد بزمن الحرب، بينما تستخدم إيران هذا الزمن لصالحها.
الموقف الجماهيري، إذن، ليس كفة مستقلة في ميزان القوى، بل وزن يوضع في كفة الطرف الأقدر على استثماره أو كبحه. في المدى القصير، تبدو إيران هي الأقدر على تحويل الجماهير إلى رصيد دعائي وسياسي، بينما تعاني إسرائيل من ضغوط داخلية تجعل الجماهير عبئًا حساسًا على القرار العسكري والسياسي.
لكن حين تطول الحرب ويتحول الزمن نفسه إلى ساحة صراع، فإن الفارق يتجلى بوضوح:
نتنياهو يركض وراء صورة الحسم ليُرضي جمهورًا لا يرحم، أما إيران فتكتفي بالبقاء وتراهن على تعب الخصم — ومن لا يحتاج إلى النصر ليثبت شرعيته، هو من يربح لعبة الاستنزاف