( الجدوى ) على حلبات مختلفة / قراءة في كتاب - مجرّد وقت وسيمضي - لشاكر الناصري


جمال علي الحلاق
2025 / 6 / 12 - 06:45     

أشهد أنّني في ستّ ساعات - من الفضول الدبق - قرأت كتاب " مُجرّد وقت وسيمضي / يوميّات السّرطان لشاكر الناصري " *
كان الفضول لديّ مصحوباً برغبةٍ في الإقتراب من تجربة حياتيّة خاصّة جدّاً ، مؤلمة وتمتلك القدرة على إثارة أسئلة عديدة حول مفهوم ( الجدوى ) من وجود الفرد في العالم ، لذا كانت صفحات الكتاب تنزلق تباعاً الواحدة بعد الأخرى في مهبٍّ سريع .

الحياة انشغال بالجدوى :

في اللحظة التي يتفتّح فيها ذهن ووعي الفرد ، يبدأ بتحسّس وجوده الذاتي الخاصّ في العالم ، يُدرِك على السليقة الحقيقة الصارمة والقاسية :
أنّ الحيّ – سواء أكان إنسانا / حيوانا / نباتا - مسيّج بالموت .
لحظة الإنتباه والإدراك هذه تجعل الفرد بمواجهة جدار الموت الغامض ، المهيب ارتفاعاً وانحداراً ، الراوي الصامت ، الحاجب عن كلّ ما خلفه ، المهول الذي يتخاذل أمامه الجسد البشري بكلّ عنفوانه ، هكذا يرى الفرد موته منتصباً كمرآة ، يحدِّق فلا يرى في المرآة سوى موته ، ومع هذا ، وبالرغم من هذا الوضوح الفظّ الصارخ نرى أنّ انشغالنا بالدهشة واللّذة والمتعة التي تنضح أو تنبع من الحياة ذاتها - بمختلف أشكالها - تجعلنا ننسى هذا الحضور الفظّ المرعب للموت ، الى درجة أن لا نلتفت إليه ، وأن لا نقيم له اعتباراً ، بل إنّنا لا نضع للموت حيّزاً في جدول أعمالنا الأسبوعي أو الشهري أو حتى السنوي ، على العكس تماما ننشغل بالحياة ذاتها ، ننشغل بكلّ تفاصيلها التي تأخذنا بعيداً ، فينمو لدينا الأمل في أن نعيش الحياة وكأنّنا مخلّدون فيها ، نخطّط لبرامج شخصيّة تتجاوز في الزمان الشهر ، بل السنة أو السنين أحياناً ، وتنمو لدينا - بصحبة ذلك - الرغبة على التغيير والمواصلة ، ننشغل وننسى حتى كأن لا موت هناك على الإطلاق .
طبيعة الإنشغال بالحياة واتّجاهه يجعل الجدوى من وجودنا مضيئة ، وهذا الأمر يجعلنا ننتبه فقط الى قدراتنا ، مواهبنا التي نمتلك ونتفرّد بها عن سوانا ، يجعلنا ننتبه الى طاقاتنا الكامنة فنتجدّد بشكلٍ مستمر . الحياة تدفعنا بكلّ وسائلها الى أن نكون أحياء ومتميّزين ، وكأنّها بذلك تتحصّن - بنا - ضدّ الموت ، إنّها تتجدّد بنا ، وكأنّنا الجدوى التي بها تنمو .

تجربة موت الآخر :
لكن بالرغم من كثافة انشغالنا بالحياة ، أو لعلّه بسبب انشغالنا المكثّف بالحياة الذي يتطلّب انفتاحاً وتواصلاً ، يحدث دائماً - بشكلٍ أسبوعي أو شهري - أن نمرّ بتجربة ( نقيض الحياة ) ، لكنّها تحدث على مسافة منّا ، تحدث عبر تجربة ( موت الآخر ) ، كيفما كانت هويّته ، حتى وإن كان هذا ( الآخر ) من ضمن دائرتنا الاجتماعيّة صديقاً مثلاً ، أو حتى لو كان من رهطنا / من عائلتنا الشخصيّة ، شخصاً حميماً ، هكذا نجد أنفسنا ونحن نجلس مع الجمهور على مدرّجات الملعب ، وننظر الى مُصارع الثيران داخل الحلبة ، ننظر إليه وهو يواجه موته الفردي وحيداً ، وبالرغم من ثقل الحزن وقساوة ما نمرّ به فإنّ هذه الإنتباهات لا تمتدّ ، أو لا تستمر طويلا ، يبقى الانشغال بدسم الحياة أكبر غوايةً وأوسع تأثيراً ، ففي لحظات تسحبنا الحياة الى ما يجعلنا ننشغل بها ، أو بجزء من تفاصيلها الى درجة أن لا نمتلك فرصة للإلتفات الى ما افتقدنا أحيانا ، أحاول هنا أن أستشهد بتجربة ( شاكر الناصري ) نفسه في استذكاره موتا قديما :
" وفي لحظة ما ، أو غفلة من الزمن مات أخي الأصغر شعلان ، كيف مات ؟ ولماذا مات ؟ حتى هذه اللحظة لا أعرف " ( ص 155 )

الموت نسيان للجدوى :

موت الأخ - في ما كتبه شاكر – بحدّ ذاته انشغال عن الحياة ، وانتباه مهم تجاه طلسميّة الموت ( كيف ؟ لماذا ؟ ) ، لكنّه يبقى انشغالاً عابراً وانتباهاً قصيراً ، هكذا ، حَدَثَ وانتهى ، لكن عند مرورنا بتجربة ( السرطان ) - بشكل ذاتي - نكتشف أنّها على عكس كلّ ما ألفناه أو رأيناه من أشكال وتجارب الموت ، هنا يصبح ( موتنا الشخصي ) هو انشغالنا الأكبر ، فيقودنا ذلك الى مقلوب تجربة موت الآخر ، هكذا ننسى كلّ دهشة تحيط بنا ، ننسى كلّ أمل أو كلّ بصيص ، ننسى الرغبة بالحياة وما حوت ، وهذا ما انتبه له ووثّقه ( شاكر الناصري ) عبر تجربته الذاتيّة مع السرطان في قوله :
" من يخضع للعلاج الكيمياوي الذي اختبرته شخصيّا وعرفتُ ، وعلمتُ ، وتلمّستُ شدّته وبشاعته وآلامه ، سيكون خارج الحياة والتاريخ والعائلة والعلاقات الاجتماعيّة والأصدقاء وكلّ قنوات التواصل التي يمكن أن تربطه بالعالم وبالبيئة التي تحيط به ، سيكون خارج كلّ شيء " ( ص 134 )
شاكر هنا يتحدّث تحديداً عن تجربة أن تجد نفسك – وأنت - في الفضاء الواسع للحياة مقيماً في فم الموت ، حين ينحصر الكون كلّه دخل ثقب أسود . التلفّت لا يقود الى شيء .
هكذا فجأة تنقلب زاوية الرؤية والإنتباه ، يتحوّل المصاب بالسرطان الى ما يشبه مُصارع ثيران داخل حلبة ، ويكون الجسد هو الحلبة . في تجربة شاكر الناصري كانت ( المعدة ) هي الثور داخل حلبة الجسد .
تنقلب الرؤية ، ينسحب ويبتعد الخارج كلّه من دائرة الإهتمام الشخصي ، وتتجّه الحواس في قراءتها الى الداخل ، ومن هنا تحديداً يبدأ الانهمار الكثيف لأمطار ( الذاكرة ) محاولة في إعادة قراءة أهم تفاصيل الحياة الشخصيّة ، أو حتى الانتباه لما لم نتوقّف عنده .
كتاب " مجرّد وقت ويمضي " يجعلنا نرى كيف انهمرت قسوة ذاكرة تجربة حرب الخليج الأولى ( العراقيّة / الإيرانيّة ) عند شاكر الناصري الذي من سوء حظّه أنّه شارك فيها ، فكانت حياته – لمدة خمس سنوات - ساحة قتال مُلَغَّمَة ، في كلّ خطوة يتجسّد الموت بأطراف تتناثر وصراخ وأنين يتعاليان ، لذا تصعد لديه في لغة البوح عن تجربة السرطان استعارة ( اللّغم ) بديلاً عن الخليّة السرطانيّة ، اللّغم الذي يتناسل ويتكاثر فيحيل الجسد الى ساحة معركة ، بل الى أرض حرام ملغّمة ، أصغي إليه وهو يجهر بهذا البوح :
" السرطان لغم مدمّر ومخيف ، ينمو ، دون دراية أحد ، داخل جسم الإنسان ، ثمّ يكبر ، وينتقل ، ويفرخ ألغاماً أخرى فتحيل حياة صاحبه الى جحيم " ( ص 22 ) .
إنّها ذاكرة عصيّة على النسيان ، ولا تريد أن تنتهي كامتداد مستمر للحرب ، لا تطاردك في الحلم فقط ، بل تطاردك في اليقظة أيضاً ، وما يحدث هنا بظهور السرطان في تجربة الناصري هو عمليّة ( اندماج ) ذاكرة الحرب بكلّ كوابيسها مع ( اللحظة الراهنة / السرطان ) ، ليشكّلا معاً كابوساً مهولاً :
" بدأتُ أتحسّس ، وبخشية وذعر ، جسدي ومعدتي بحثاً عن اللغم الذي نبت فيها ، هل سينمو ؟ وينتشر ؟ متى ينفجر ؟ ما الحل ؟ " ( ص 22 )

فجأة أنت محاصر بالجسد ، بل مكبّل به ، الحقيقة المُرَّة تتجلّى في أنّ الجسد يمتلك القدرة على أن يحاصرك ويكبّلك بضعفه ، بتخاذله وانهزامه السريع .
ستبدو اللحظة غير عقلانيّة تماما ، وبلا جدوى ، لا يمكن استيعابها ، أن تكون أنت بقوّة وعي وأهداف حياتيّة كبيرين ، ويكون جسدك من الهشاشة والضعف الى درجة أن يجرّك من ياقة ذاتك إليه . أن تكون منقاداً للضعف .
وبالرغم من ثقل هذه اللحظة الكابوسيّة التي تتجلّى في فقدان الرغبة الاجتماعيّة ، الانسحاب والاعتزال في الغرفة ، أو في الغابة ، حالة من العقم الاجتماعي والذوبان والتلاشي مع الطبيعة ، لكن وبالرغم من تأثير المرض نفسه ، أو من تأثير العلاج بالكيمياوي تبقى الأرواح الكبيرة في حالة صراع مرير مع الجسد المتخاذل سواء تحت تأثير انتشار الخلايا السرطانيّة المتكاثرة ، أو تحت تأثير الضعف الجسدي الذي ينتج عن جرعات العلاج الكيمياوي .
بداية تجلّى الضعف لي في انتباهة ( شاكر ) وهو في أعلى درجات صراعه مع الجسد ، حتى أنّه خصّص له فقرة تحت عنوان ( ذُل ) ، كلمة واحدة فيها من القسوة ما لا يحتمله صاحب همٍّ إنساني نبيل ، قال فيه :
" بعد تلقّي الجرعة الخامسة ، إذ كنت أشعر كأنّي مقذوف خارج هذا العالم ومطرود منه ، كأيِّ كائن محبط وفاقد التركيز وغير قادر على التعامل مع من يحيطون به ، ولا يجيد سوى الهذيان الكئيب المكرّر عن الألم وفقدان طعم الأشياء والإحساس بالمرارة وضعف الجسد . " ( ص 116 ) .

مقلوب استعارة ( اللّغم / السرطان )

ومع هذا يبقى الضعف - برغم جبروته - إهزوءةً في عين إرادة لا تتوقّف عن الإنحياز للحقّ والعدالة الإجتماعيّة حيثما كانت على الأرض ، من هنا نرى شاكر الناصري – وبحسّه الإنساني النبيل - يتفاعل ويتضامن مع ( الشعب الفلسطيني ) في أزمته الوجوديّة ، لكن بانتباهة جديدة تثير استفهاماً عميقاً فهو يقرأ الهجوم الإسرائيلي على ( غزّة ) باعتباره (هجوماً سرطانيّاً ) ، تماماً مثل قراءته لحرب فيتنام ، وإنّ تفعيل حسّ الاعتراض العالمي والاصطفاف مع الشعب الفلسطيني سيكون شبيهاً بجرعات العلاج الكيمياوي الدوري الذي يحجّم تكاثر وانتشار الخلايا السرطانيّة ( يمكن النظر في فقرة : سنان أنطون وفلسطين وحراك الجامعات الأمريكيّة / ص 124 – 129 ) .
أريد التركيز هنا الى مدى تأثير طغيان حضور تجربة السرطان في وعي شاكر الناصري وكيفيّة استثمارها من قِبَلِه كاستعارة وكتشبيه في الافصاح عن رأيه ، أنظر إليه في قراءته لحرب الإبادة ضدّ غزّة كيف انقلبت ( الاستعارة ) لديه بشكل عكسي تماما ، فبعد أن رأى الخليّة السرطانية - التي اخترقته - لغما والجسد ساحة حرب ، نراه هنا يرى الهجوم الاسرائيلي سرطانا ، ويرى الأرض المستباحة وقد تحوّلت الى جسد ، لقد كانت القراءة نافذة مهمّة حقّاً لفهم تأثير ثقل التجربة الحياتيّة ( حربا / سرطانا ) وتداعياتها على الشخص ذاته في قراءة وتقييم محيطه الإجتماعي ، وأنّنا نقرأ العالم وفق بمفردات واقعنا الذاتي .

التضامن العائلي / ليست حربك وحدك :

وبالتأكيد ، لا يمكنني إلا أن أشير هنا الى هذا التوهّج ذي النَفَسِ الإنساني الراقي ، فبالرغم من ثقل المرض ، وبالرغم من درجة كابوسيّته على الفرد يبقى الوعي الجميل منتبهاً ومراقباً ومندّداً ضدّ البشاعة التي تتناسل بصلافة وقحة على سطح الأرض ، وبالتأكيد فإنّ التضامن العائلى ( زوجة وأبناء ) كان من الوضوح والرقي بحيث وصلت إلينا – كقرّاء - الرغبة الجماعيّة في التحصّن والدفاع ، فالحرب لم تكن فرديّة قدر الممكن ، وهذه أعلى رتبة يمكن أن يصل إليها وجود العائلة من جدوى في حياة الفرد .
ختاماً أريد القول هنا ، وهذا ما تجلّى لي بوضوح من خلال قراءة تجربة شاكر الناصري في مجابهة السرطان وتأثير علاجه : أنّ الأرواح الكبيرة – في أقسى لحظات ضعفها اللا إرادي – تظلّ الى النهاية في حالة اصطفاف وانحياز مع كلّ ما من شأنه تحقيق ( الجدوى ) في العالم ، النفوس الكبيرة تظلّ الى النهاية تبحث عن تبرير لوجودها على الأرض بعيداً عن ممارسات التضليل ، وبعيداً عن الغيبيّات ، وهذا بحدّ ذاته انتصار للذات الفاعلة وللوعي العملي بلا أدنى شك .
لقد كانت الكتابة عن تجربة السرطان وأثنائها بحدّ ذاتها جرأة هائلة ، إنّها منجز بشري يستحقّ الإنتباه له .
-----------------------------------------------------------
* مجرّد وقت وسيمضي : يوميّات السّرطان ، شاكر النّاصري ، الطبعة الأولى / 2025 ، دار الرافدين – بغداد – العراق .