أطلال الحضارات المغدورة: أمريكا اللاتينيَّة في ظل الهيمنة الأوروبيَّة
محمد عادل زكى
2025 / 6 / 9 - 08:47
يمثل التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، في جوهره، ملحمة دامية من التوسع والقهر. من العنف والإبادة. من الدماء التي سالت في معارك ليست فقط على الأرض بل على كرامة الشعوب وهويتها. في قلب هذا التاريخ المظلم، تقف أمريكا اللاتينية كشاهد على فصول مأساوية من الفتك الاجتماعي والاقتصادي، عبر تاريخها الذي حُكم بالحديد والنار من قِبل الاستعمار الأوروبي، وبالأخص الإسباني والبرتغالي. فحين وطأت أقدام الغزاة الأوروبيين، عبدة الذهب، تلك الأرض التي كانت غنية بحضارات الإنكا والأزتك والمايا، وجدوا أمامهم عالماً مختلفًا عن عالمهم المادي الربحي، عالماً قام على أسس من الملكية الجماعية للأرض، والتَّوزيع العادل للمنتجات، وعلى إيقاعات اجتماعيَّة واقتصاديَّة تنبض بالتكافل والتشارك، لا صخب السُّوق الربحي ولا هيمنة المال. كان الذهب لديهم رمزًا للروحانية والزخرفة، لا مادة للتراكم الرأسماليّ. أما الأوروبيون، فقد جاؤوا بآليات قسوة لا تعرف الرحمة؛ فرضوا نظام استغلال عنيفًا، قائماً على العبودية، والهيمنة الإقطاعيَّة، والاستنزاف الممنهج لأرواح الأرض وسكانها، ليحولوا القارة إلى سجن مفتوح من الظلم والقهر، أشدّ في وحشيته من أي نظام عرفته أوروبا نفسها. ولم يكن هذا النظام قائمًا على القتل الجسدي فقط، بل قتل ثقافي وحضاري. فلقد أكدت أرقام الإبادة الديموجرافية على التراجع الكارثي في أعداد السكان الأصليين، حتى اختفى الملايين من الوجود البشري في ظرف أقل من قرن، فتركوا فراغًا هائلًا من الدم والدموع، لا يمكن أن يمحى من ذاكرة التَّاريخ. هذه الأرقام ليست مجرد سرد إحصائي، بل شهادة دامغة على مأساة بشرية تُجسد مدى الوحشية التي مارستها آلة الاستعمار الأوروبي. لكن الاستعمار لم يكتفِ بذلك، بل شرع في وضع نظام الزراعة الأحادية الذي قيد اقتصادات أمريكا اللاتينية إلى إنتاج مواد خام تروّجها أوروبا، كبضاعة تحتاجها مصانعها، دون أن يُمنح لهذه البلدان فرصة للنمو الاقتصادي الحقيقي أو التنويع، فتركت رهينة لمصالح قوى أجنبية، وأدمنت على تبعية تعززها نخب محلية غير وطنية، صارت تُعرف بأرستقراطيات السكر والكاكاو، التي لم تكن سوى أدوات في يد الاستعمار، تدير أرباحها في اتجاهات تعزز استمرار هذا التبعية، مما أثقل كاهل التنمية وأغرق القارة في مستنقعات الفقر والتخلف. وفي خضم هذا التاريخ القاسي، كان الاستيراد القسري للعبيد الأفارقة أداة ضرورية لتمدّد الاستعمار، لتعويض النقص الجسيم في اليد العاملة بعد إبادة السكان الأصليين. جاء هؤلاء العبيد حاملين معهم إرثًا ثقافيًا متشابكًا مع واقع الاستعمار القاسي، كي يتشكل تركيبًا اجتماعيًّا معقدًا أفرز طبقات جديدة، كطبقة "الكريوليس"، التي لعبت دورًا مزدوجًا بين تعزيز الهيمنة الاستعمارية والمحاولة الحذرة للاستقلال السياسي، الذي لم يخلُ، بطبيعة الحال، من التبعية الاقتصادية والسياسية. إن ما شهدته أمريكا اللاتينية من استغلال استعماري وتبعية قسرية، لم يكن مجرد تاريخ سلبيّ عابر، بل هو امتداد حيوي لعلاقات القوة العالمية التي ما زالت تُعيد إنتاج نفسها في أزمنة ما بعد الاستعمار، حيث تواصل الاقتصادات المحلية خضوعها لآليات السوق العالمية التي تُديرها قوى مركزية خارجية، تاركة إياها أسيرة حلقة مفرغة من الفقر والديون والعجز التنموي، مهددة بذلك استقرارها الاجتماعي والسياسي. أن أزمة أمريكا اللاتينية المعاصرة لا يمكن أن تفهم بمعزل عن إرث هذا التَّاريخ الإنساني والاقتصادي. الإرث الذي رسم ملامح الواقع بتناقضات عميقة بين الثراء الفاحش لشبكات النهب الإمبريالية، وبين الفقر المدقع الذي يعيشه ملايين السكان، وبين تحولات الشكل السياسي من الاستعمار المباشر إلى الاستقلال السياسي، وبين استمرار السيطرة الاقتصادية والهيمنة الثقافية. إن القارة المنهوبة لم تسترد حريتها كاملة، بل ظلت رهينة ألغام الماضي، التي تفجرها دوماً تحولات المشهد الدولي، فتظلّ تسير في دروب متعرجة، يصعب معها تصور مستقبل مستقل حقًا. هذا التَّاريخ الدموي، وهذه الحكاية المعقدة التي تشدّنا إليها أمريكا اللاتينية، ليست مجرد قصة ماضي وحسب، بل هي درس قاسٍ في طبيعة الهيمنة الرأسمالية، وفي كيفية تعبير القوى الكبرى عن سلطتها عبر الزمان والمكان، من خلال الاستغلال المباشر والاستعمار السياسي، وصولاً إلى آليات السيطرة الاقتصادية والثقافية المستترة. ومن هنا، فإن فهم هذا التاريخ لا يعني فقط استذكار المآسي، بل يتطلب التعمق في فهم الديناميات العميقة لعلاقات القوة والتبعية التي تهيمن على العالم.