فيليس ويتلي: حين كتبت العبدة قصائد الحرية


أوزجان يشار
2025 / 6 / 8 - 18:34     

هناك أرواحٌ لا تكتفي بالولادة، بل تصنع لنفسها ميلادًا ثانيًا… في القصيدة.
كانت فيليس طفلة إفريقية صغيرة، تُدعى باسمٍ لم يخزنه التاريخ. ثم جاءت سفينةٌ… فاختطفتها من أرضها، وسلبتها اسمها، ووهبتها اسمًا جديدًا: “فيليس”، تيمّنًا باسم السفينة ذاتها.
وصلت إلى العالم الجديد جسدًا صغيرًا، مذعور العينين، مكسور الظهر، واقفةً في ساحة بيع العبيد.

لكن ما لم يعرفه التجار، هو أن تلك الصغيرة تحمل بين ضلوعها نارًا لا تُطفأ.
قُيّدت قدماها، لكنها كانت تكتب.
سُلب صوتها، لكنها كانت تُنشد.
أُهينت إنسانيتها، لكنها أعادت تعريف الكرامة.

لم تكن تطلب حقًّا، بل كانت تكتب لكي يتعلم الآخرون كيف يُنطق هذا الحق.

وُلدت في إحدى قرى إفريقيا الغربية، في السنغال أو غامبيا، نحو عام 1753. وفي عمر السابعة، تم اختطافها على يد تجّار الرقيق، وسُلّمت إلى السفينة التي حملتها عبر المحيط، وأُطلق عليها اسم “فيليس”.
في ساحة بيع العبيد ببوسطن، عُرِض جسدها الهزيل كسلعة، وتقدّم أحد التجار، جون ويتلي، فاشتراها، ليمنحها لاحقًا لقبه، ويبدأ فصلًا جديدًا من حياتها داخل منزله.

وفي ذلك البيت، الذي كان من المفترض أن يكون سجنًا آخر، بدأت بذور المعجزة.

تعلمت فيليس القراءة والكتابة بسرعة مدهشة. كانت تقرأ الشعر الكلاسيكي، والكتب المقدسة، وتلتهم الأساطير الإغريقية واللاتينية كما لو كانت تبحث عن ملامح نفسها فيها.
وفي سن الثالثة عشرة، بدأت تكتب الشعر بلغة منفى، لكنها كانت تصنع بها وطنًا.

“لقد ساقني القدر من أرضي الوثنية،
وكان في ذلك رحمة خفيّة،
إذ علّمني أن هناك خالقًا،
وأن روحي ليست وحدها في هذا الطريق.”

ورغم أن ظاهر الأبيات يوحي بالتسليم، إلا أن بين السطور حوارًا داخليًا بين المقهورة والمقدَّر، بين التي اختُطفت وبين من تكتب لتفهم لماذا.

في عام 1772، واجهت فيليس لحظة نادرة في التاريخ: استُدعيت إلى محكمة خاصة، شكلها ثمانية عشر رجلًا أبيض، ليقرروا ما إذا كانت هذه الفتاة السوداء المستعبدة قادرة فعلًا على كتابة الشعر.
طلبوا منها أن تتلو ما تحفظه من نصوصٍ دينية، وشعرية، وفلسفية.
وقفت بثبات أمامهم، لم تتهدج كلماتها، ولم ترمش عينها خوفًا.
لم تكن تسعى إلى رضاهم، بل إلى شيء أسمى: أن تعلن للعالم أنها موجودة، تفكر، وتشعر، وتكتب.

في العام التالي، نُشرت مجموعتها الشعرية في لندن، وحملت عنوانًا دينيًا تقليديًا، لكنها ضمّت بين سطورها ما هو أعمق من المواعظ: ضمّت قلبًا حرًا، يتمرّد على كل ما هو مفروض.

“قد ينظر البعض إلى أصحاب البشرة الداكنة باحتقار،
لكن تذكّروا أن الخالق لا يفرّق،
وأن الأرواح، مهما كان لونها،
تستطيع أن تُصقل، وتلتحق بجوقة الملائكة.”

هذا البيت وحده كان ثورة.
لم تكن تُطالب بالمساواة فقط، بل كانت تقول:
“أنتم لستم ميزان السماء… السماء لا تُقيسنا بألواننا.”

وقد منحتها شهرتها هذه حريتها — ولكن بلا دخل، ولا بيت، ولا سند.

لم تَعِش طويلًا.
تزوجت، وفقدت أطفالها الثلاثة، وتُوفيت في سن الواحدة والثلاثين، فقيرةً ومنسيّة، لكن صوتها ظل يتردّد.

وهكذا حين يصبح الشعر ضوءًا في النفق،

لم تكتب فيليس لتكون بطلة، بل كتبت لأنها لم تجد سبيلاً آخر للوجود.
كل بيتٍ من أبياتها كان نافذة تهوية في غرفة خانقة،
وكل قصيدة كانت مشيًا على حافة السكين.
لكنها استمرت…
كتبت لنفسها، ولأولئك الذين لم يُسمح لهم بالكلام.
وإن كانت قد ماتت فقيرة، فإن كلماتها اليوم تُتلى في الجامعات، وتُطرّز في كتب الأطفال، وتُدرّس في التاريخ الأميركي.

في القرن العشرين والحادي والعشرين، استُعيد اسمها بقوّة في الأوساط الفكرية:
باتت تُدرَّس في الجامعات، وتُستشهد بها في الأدب النسوي الأسود، ويُنظر إلى كتاباتها بوصفها أول شكل من أشكال “الأدب المقاوم” المكتوب من داخل العبودية.

لقد أعادت فيليس تعريف ما تعنيه الحرية:
ليست فقط أن تسير بلا قيد، بل أن تكتب وأنت في عمق القيود.
وأن تمنح ذاتك صوتًا في عالم يرفض أن يسمعك.

“فيليس…
اسمٌ لم تختره،
لكنه صار قصيدةً غيّرت وجه التاريخ،
ومرآةً لصوتٍ ظلّ حيًا في زمن الموت الجماعي.”