ألتربية النقدية تقاوم الفاشية من خلال إحياء التاريخ


سعيد مضيه
2025 / 6 / 8 - 09:05     

"يحتاج الشباب إلى أكثر من مجرد شعارات؛ إنهم بحاجة إلى مفردات سياسية مستنبطة من دروس التاريخ، تتبين كيف تتنكر الفاشية في زي الحرية بينما هي تُمارس القمع، وكيف تُسخّر خطاب النظام لمحو ذكرى المقاومة. هذه هي المهمة التي يجب أن تتكفل بها التربية النقدية" ينصح هنري غيرو في المقالة التالية التي أعدها لمجلة دراسات الأرض المقدسة وفلسطين.
هنري غيرو اكاديمي أميركي ، باحث متميز في مجال التربية النقدية حسب منهج باولو فريري. متضامن مع الشعب الفلسطيني. من أحدث كتبه: "بيداغوجيا المقاومة: ضد الجهل المُصنّع" (بلومزبري ٢٠٢٢) و"التمردات: التربية في عصر سياسات الثورة المضادة" (بلومزبري ٢٠٢٣)، وشارك في تأليف كتابَي "الفاشية في المحاكمة: التربية وإمكانية الديمقراطية" (بلومزبري ٢٠٢٥). وهو كذلك عضوٌ في مجلس إدارة مجلة "تروث آوت" الإليكترونية.
يميز الباحث بين البيداغوجيا -الوسائل والأساليب المتبعة والوسائل المساعدة في العملية التربوية - ؛أما التربية فتشمل مجمل عملية تطوير وصقل المواهب، داخل الصفوف المدرسة وخارجها

صراع الإنسان ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان. - ميلان كونديرا


التربية النقدية: ربط الأفكار بالعمل
في عصرٍ حيث الثقافة ساحة المعركة الرئيسية، يكتسب الاستبداد القوة من الجهل ونسيان التاريخ وجماليات القسوة الوحشية، وكلها تغدو عادية تعتبر من البدهيات . سياسة إبادة المدارس - اعتداءٌ شامل على الماضي - هدفه ليس محو التاريخ فحسب، بل محو القدرة على التعامل معه نقديًا. نشهد هذا في حرب إسرائيل الإبادة الجماعية على غزة، حيث يُدمّر التعليم بشكل منهجي، وتُمحى الجامعات، ويصبح العنف الذي يصعب تخيله قاعدة للحياة اليومية.
في صخب هذه الفوضى، تُجرد العقول الشابة من أدوات فهم تاريخها وذواتها الجماعية، وكذلك تحدي السلطة، وتصوّر مستقبل خالٍ من الاضطهاد . سياسات من هذا القبيل ليست جرائم ضد حياة الأفراد فحسب، بل هي جرائم ضد التاريخ بالذات، إذ تمحو ذكرى المقاومة والنضالات التي شكلت الحاضر. في الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترامب، اتخذ فقدان الذاكرة التاريخية أشبه ما يكون شكلاً خبيثاً يتعمد تعزيز الجهل، لا سيما فيما يتعلق بتاريخ أمة جذوره غائرة في العنف العنصري والاستعمار والنضالات المستمرة من أجل العدالة. تُحظر الكتب، وتُشطب من مناهج الدراسة الأفكار النقدية، ويصفى التاريخ، ويُفصل المعلمون المعارضون أو يُهددون بالفصل،ُختطف الطلاب المحتجون من أجل حرية الفلسطينيين، يُحتجزون ويُحرمون من الإجراءات القانونية الواجبة.


يتطلب النضال من أجل العدالة إعادة تأهيل التعليم والفضاء العام؛ مشروع لم يعد خيارًا، بل هو شرط للبقاء. بصفتنا مربين، يتوجب علينا زراعة وعي نقدي يمد جذوره في الوعي : بالتاريخ، وبهياكل السلطة، وبما هو مخفي ولا يسمع له صوت. يعني هذا ربط الأفكار بالعمل وفق أساليب تُفكك أشكال الهيمنة الأيديولوجية والاقتصادية، وتُغذي تخيلا أخلاقيًا يملك الجرأة لأن يفكر فيما يُعلنه الحاضر مستحيلًا.
البيداغوجيا النقدية، أكانت رموزا أو مؤسسات ، تلعب دورًا حاسمًا في مكافحة عودة ظهور التفسيرات الزائفة للتاريخ: عنصرية تفوق البيض، الأصولية الدينية، وتسارع النزعة العسكرية والقومية المتطرفة. علاوة على ذلك، إذ يشيع الفاشيون في أرجاء العالم صورًا للماضي مسمومة ، عنصرية وقومية متطرفة، يغدو ضرورة قصوى إعادة تأهيل التربية باعتبارها أحد أشكال الوعي التاريخي وشهادات الأخلاق . وهذا ملح خصوصا لدى التصدي لسياسات مثل سياسة ترامب، التي بات النسيان التاريخي، في كنفها ، سلاحًا لتكتيك موجه عمدا لقمع الوعي المدني والمعارضة. ترفض سلطة الاستبداد دروس التاريخ المؤلمة - العنصرية والإبادة الجماعية والعبودية والتمييز الجندري - لأن هذه الحقائق المظلمة أصداء قوية للنظرة العالمية التي يسعون لتخليدها. يرفضون مواجهة الماضي، فذلك من شأنه تقويض قاعدة سلطتهم . وهذا صحيح بشكل خاص في زمن تقوّضت اسس الثقافة المدنية وفُقِدت الذاكرة التاريخية والاجتماعية؛ ولا يضاهيه في التقويض سوى فرض الطابع الذكوري على المجال العام وتنامي اعتياد سياسات الفاشية، تكتسب القوة بفضل الجهل والخوف وقمع المعارضة والكراهية. فقدان الذاكرة التاريخية يقوم مقام التربة الخصبة لنمو هذه الأيديولوجيات السامة - إسكات أصوات المقاومة وحجب النضالات التي شكلت حركاتنا من أجل العدالة.
إن اندماج السلطة بالتقنيات الرقمية الجديدة والحياة اليومية لم تغير الزمان والمكان فحسب، بل وسّعت نطاق الثقافة كسلطة تربوية. ثقافة الأكاذيب والقسوة والكراهية، مضافا اليها الخوف من التاريخ ومن تدفق المعلومات على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، تشن الآن حربًا لتقليص مدى فترة طاقة الانتباه، مما يؤدي إلى تداعي الشروط الضرورية للتفكير، والتأمل والوصول إلى أحكام سليمة.

التربية خارج الصف المدرسي
تتجاوز التربية، كنشاط ثقافي، الصف المدرسي وتأثيره التربوي. فهي تلعب دورًا حاسمًا في تحدي ومقاومة صعود التشكيلات التربوية الفاشية، ودورها في إعادة تأهيل المبادئ والأفكار الفاشية. علينا أن نتصدى بفعالية لمحاولات إعادة كتابة التاريخ من منظور الأنظمة الاستبدادية، سواء في غزة أو الولايات المتحدة أو أي مكان آخر. فقدان الذاكرة التاريخية هذا ليس مفاجئا ، بل هو أداة سياسية تُستخدم عمدًا لإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية وإنكار إمكانية المقاومة.
تُذكّرنا الباحثة، أرييلا أزولاي، بقوة أن التربويين يتحملون مسؤولية القيام بما تُسميه المواطنة البيداغوجية، وهي إحدى أشكال التدريس، لدى اتباعه بوعي وتماسك، يساعد على تذكر واجباتنا المشتركة. في مواجهة الاعتداءات التي لا تتوقف على الذاكرة، تقع على عاتق التربية مهمة تقديم رؤية مضادة: إيقاظ الوعي النقدي وفضح عنف الإرهاب الاستبدادي. من خلال هذا النشاط، من خلال مقاومة شطب التاريخ، يكون بمقدورنا التزود بالأدوات اللازمة لإدراك بنية الاضطهاد، وتفكيكها كذلك.
أي مفهوم للبيداغوجيا النقدية قابل للحياة يتطلب وضع رؤى وأدوات تربوية كي يُحدث تحولاً جذرياً بالوعي. يجب أن يكون بمقدوره اكتناه سياسات الأرض المحروقة التي تنتهجها رأسمالية العصابات، تتميز بالفروقات الصارخة ، وبالاستعمار الاستيطاني، وبدعم أيديولوجيات ملتوية معادية للديمقراطية. ولن يحدث التحول في الوعي هذا بدون تدخلات بيداغوجية تخاطب الناس بأساليب تتيح لهم التعرف على ذواتهم والتماهي مع القضايا المطروقة ، وموضعة خصخصة مشاكلهم في سياق منهجي أوسع.


تجاوز الشعارات
يحتاج الشباب إلى أكثر من مجرد شعارات؛ إنهم بحاجة إلى مفردات سياسية مستنبطة من دروس التاريخ، تتبين كيف تتنكر الفاشية في زي الحرية بينما هي تُمارس القمع، وكيف تُسخّر خطاب النظام لمحو ذكرى المقاومة. هذه هي المهمة التي يجب أن تتكفل بها التربية النقدية. لا يتعلق الأمر بتعليم الحقائق وحسب، بل يتعلق أيضًا بتهيئة الظروف لإعادة تصور جذري للمستقبل، تصور يعترف بالماضي ويسمح لنا بمقاومة السلطوية التي تكتسب القوة من الجهل ومحو التاريخ.
إذا أردنا مقاومة آفة فقدان الذاكرة التاريخية واعادة تأهيل المستقبل ، فعلينا جميعًا أن نهب للنضال، من خلال التربية والنشاط والالتزام بالعدالة القائمة على دروس التاريخ.