في التَّاريخ الذي كُتب بالذهب والدم: نقد المركزيَّة الأوروبيَّة
محمد عادل زكى
2025 / 6 / 8 - 04:50
ليست الهيمنة الأوروبيَّة على العالم، منذ نهضتها الحديثة، مجرد تفوُّق تقنيٍّ أو عسكريٍّ أو اقتصاديٍّ، بل هي في الأساس هيمنة رمزيَّة، ومعرفيَّة، وتاريخيَّة، ولغويَّة، أي هيمنة على الإنسان من حيث هو كائن تاريخيّ/ ثقافيّ فالحضارة الأوروبيَّة لم تكتفِ بالانتصار، بل احتكرت معناه، ومحت من الوجود التَّاريخي كل ما، ومَن، لا ينتمي إليها أو يمر عبرها. إنها حضارة استبطنت التَّفوُّق لا كواقع ماديٍّ فحسب، بل كـحقٍّ معرفي يجعل منها المرجع الوحيد الممكن لقياس الإنسانيَّة. لقد أنتجت أوروبا "علمها" الحديث، لا من خلال حوار معرفيّ جدليّ مع الحضارات الأخرى، وإنما عبر فصل معرفيّ قسري بين ما يُسمى "العقل الأوروبي" و"الشرق الأسطوري". فتاريخ العلم يبدأ في السردية الأوروبيَّة باليونان، ولكن ليس باليونان الَّتي كانت ضِمن الفضاء الشرقي، الممتزج بالفكر المصري والبابلي والفينيقي، بل باليونان المبتورة عن جذورها الشرقية، والَّتي، بالتَّالي، قدّمت في إطارٍ "غربي نقي"، كأنما الفكر ولد خالصًا، عقلانيًا، ويونانيًا، وأبيض! هكذا، أعادت أوروبا تركيب الزَّمن، وجعلت من تاريخها تاريخًا عالميًّا، ومن لحظاتها الكبرى، مثل عصر الأنوار والثورة الصناعيَّة، مفاصل لتاريخ الإنسان كلّه، دون اعتبار لغيرها من التواريخ. لا بل، جعلت من تاريخ الشعوب الأخرى مجرد ظلٍّ لتاريخها، وأعادت تأريخ العالم المُستَعمَر انطلاقًا من لحظة استعمارِه، فكأن هذه الشعوب لم تكن شيئًا قبل دخولها سجلّ الهيمنة. فالهند لم تكن حضارة عريقة، بل كانت "أرض العجائب المتخلفة"، وأفريقيا لم تكن سوى "قارة بلا تاريخ"، والعرب لم يكونوا إلا بداة في صحراء حارقة، حتى أضاءت عليهم "أنوار الغرب". بهذا الشكل، أصبحت السردية الأوروبيَّة هي السرديَّة الوحيدة المسموح لها بالكلام باسم الإنسان. فهي الَّتي تعرِّف "الحداثة"، و"الدين"، و"العلم"، و"الحق"، و"الحرية"، و"الهوية"، و"المعنى". أما ما يخرج عن هذه القوالب، فهو إما فلكلور شعبيّ، أو تخلّفٌ يجب تخطِّيه. والأخطر من ذلك أن أوروبا المنتصرة لم تفرض مفاهيمها فحسب، بل أقصت وألغت حضور غيرها من الشعوب من سجلّ الذاكرة الجماعية للبشرية. فالدين لم يعد تجربة روحية متعددة المشارب، بل صار "المسيح الأبيض"، بملامحه الأوروبيَّة، يتصدَّر كل تمثُّل للإله، في حين أُقصيَ يسوع التَّاريخي، الشرقي، والفقير، والثَّائر. فاللاهوت تحوّل إلى أداة إمبريالية، تُمجِّد شعبًا مختارًا جديدًا هو الإنسان الأوروبي، وتُقصي كل ما هو غير أوروبي على أنه وثني، أو غامض، أو غبي، أو شرقي! وكذلك السياسة، فهي رواية أخرى من روايات التفوُّق المقدس. فالديمقراطية الأوروبيَّة لا تُقدَّم باعتبارها أحد النماذج الممكنة في التَّاريخ السياسي، بل كالنموذج الوحيد العقلانيّ والمتحضِّر. وكل ما عداه من نُظُم، سواء كانت ملكية شرقيَّة أو مجتمعات بلا دولة أو تنظيمات بدوية أو تقاليد شورى أو إمارات مدنيَّة أو مجالس قَبَلية، يُعتبر انحرافًا عن "الخط التقدمي للحضارة". هكذا احتكرت أوروبا صورة المستقبل، إذ لم تكتفِ باحتكار الماضي. أما اللغة فقد صارت بدورها أداة استعمار: فالإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة ليست فقط لغات أوروبيَّة، بل لغات "الحداثة"، و"الجامعات"، و"العِلم"، و"الاقتصاد"، و"العقل"، بينما صارت العربيَّة والسواحيلية والفارسية والأمازيغية... مجرد لهجات، تراثية، عاطفية، لا تصلح للبحث، ولا تصلح للسياسة، ولا تصلح "للحداثة". أمَّا الثقافة، فأُعيد تعريفها أيضًا ضمن حدود القابلية الأوروبيَّة للفهم. صار الفن، مثلًا، هو اللوحة الأوروبيَّة، وصارت الموسيقى هي الأوركسترا، وصارت المسرحية هي التراجيديا الإغريقية المعاد إنتاجها على الخشبة البريطانيَّة أو الفرنسيَّة. وكأنَّ الإنسانية، كلّها، لم تُنتج شيئًا ذا قيمة إلا ما أقرَّته الأكاديميات الأوروبيَّة. أنا لا أتحدث هنا عن هيمنة عسكرية أو اقتصادية فقط، بل عن نظام رمزي متكامل يُنتج العالم ويُعيد تعريفه وفق مصالحه ومقاييسه. وهذا بالضبط ما يجعل من نقد هذه المركزية الأوروبيَّة مهمَّةً مزدوجة: فهي من جهة تفكيكٌ لأسطورة التَّفوق الأبيض، ومن جهة أخرى تحريرٌ للمعرفة من استعمارها. إبتداءً من إيمان راسخ بأن الإنسانية لا يُمكن أن تتقدَّم ما لم تُصغِ لتاريخ من نُهِبَتْ حياتهم، لا تاريخ من نهبها.