الترجمة في الحضارة العربية الإسلامية
فهد المضحكي
2025 / 5 / 31 - 14:01
واجه العرب الأوائل الثقافات اليونانية التي كان الإغريق يفرضها على العالم القديم من خلال المراكز العلمية والأديرة المنتشرة التي كانت تعنى بالكتب والترجمات لعلوم الأوائل، فكانوا، كما يذكر الباحث والأكاديمي المتخصص في الدراسات التاريخية والحضارية العربية والإسلامية، د. عمار النهار، في إحدى محاضراته بجامعة دمشق، يحصلون على ترجمات لبعض الكتب باللغة العربية، حيث قام فريق من العلماء السريانيين على ترجمة كثير من الثقافات اليونانية والفارسية والهندية إلى لغتهم ثم إلى اللغة العربية، وترجموا للخلفاء المسلمين بعض الكتب التي تعنى بالطب والتاريخ والنظم السياسية.
وعندما فتح العرب، في القرن الأول الهجري، العراق وسوريا ومصر، كانت العلوم والفلسفة اليونانية سائدة في مختلف المركز العلمية هناك، قبل ذلك كانت مدرسة الإسكندرية الشهيرة قد انتقلت إلى سوريا، وبعد ذلك، حوالي عام 900م، انتقلت إلى بغداد، حيث كان ممثلو هذه المدرسة -رغم كونهم من المسيحيين- يشاركون في المناقشات الفلسفية.
وفي حرَّان كانت هناك مدرسة شبه فلسفية لطائفة الصابئة، اقتدى ممثلوها ببغداد. ولكن المدرسة السريانية في مدينة جنديسابور كانت أهم المراكز العلمية، وقد اشتهرت هذه المدرسة في مضمار تدريس الطب بوجه خاص، منها تخرج الطبيب الخاص لهارون الرشيد، ومنها أيضًا تخرج -خلال ما يقارب المئة عام- أخلافه ممن كانوا يزاولون مهنة الطب في البلاط، بفضل هذه الاتصالات أصبح الخلفاء -وغيرهم من الزعماء المسلمين- يدركون مدى أهمية الاستفادة من العلوم اليونانية، فنظموا عملية نقل أهم مؤلفاتها إلى اللغة السريانية (التي كانت لغة التدريس في جنديسابور وغيرها من المراكز العلمية).
ومنذ ذلك الوقت بدأ يتدفق سيل عارم من التراجم، استمر طوال القرن التاسع والجزء الأعظم من القرن العاشر، حيث أنجزت ترجمة كل المؤلفات اليونانية، التي حظيت باهتمام العرب. جرت الترجمات الأولى من اللغة السريانية، حيث إن عددًا كبيرًا من المؤلفات اليونانية كان قد ترجم إلى هذه اللغة، كذلك كان من الأسهل العثور على أناس يعرفون اللغة العربية والسريانية، نظرًا لسعة انتشار هذه الأخيرة في العراق، بينما كانت اليونانية أمرًا نادرًا. ولكن بمرور الأيام بدأت عملية النقل المباشر من اليونانية إلى العربية، ويربط معظم المؤرخين هذا الانتقال باسم مسيحي نسطوري، وهو حنين ابن إسحق.
في كتابه «قراءات في الفكر العربي والإسلامي» الصادر عن دار المدى عام 2019، وتحت عنوان «موقع حركة الترجمة من اليونانية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي»، يقول الباحث العراقي الراحل كامل شيَاع، «لا يكتمل فهم العصر الكلاسيكي في تحديد فترته الزمنية بين القرنين الثاني والسابع الهجريين، من دون تقدير دور ظاهرة الترجمة في نقل تراث وأفكار الشعوب الأخرى إلى العربية. فقد كان للعرب والمسلمين في هذا المجال إسهام رائد، خصوصًا في ما يتعلق بنقل العلوم والفلسفة اليونانية، وهي العملية التي إنطوت على دلالات بعيدة الأثر لم تقتصر على الحضارة العربية الإسلامية، بل شملت الحضارة الإنسانية كلها».
لكن ظاهرة الترجمة إجمالاً لم تُدرس في أبعادها الاجتماعية والثقافية والتاريخية بشكل كافٍ، مما حدا بديمتري غوتاس إلى التصدي لها في كتابه «فكر يوناني، ثقافة عربية» الصادر بالإنجليزية عن دار روتلبدج 1998. ويتناول فيه حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية بين القرنين الثاني والرابع للهجرة الثامن والعاشر الميلاديين، التي اقترنت ببداية خلافة أبي جعفر المنصور 750م وبلغت نهايتها قبيل إمساك البويهيين الإمبراطورية العباسية 1055م.
وعلى الرغم أن ظاهرة الترجمة لم تتوقف فعليًا منذ ذلك التاريخ، إلا إن دورها بعده أصبح ثانويًا، إذ استقل الفكر العربي الإسلامي بذاته، مميزًا نفسه بوضوح عن الفكر اليوناني، ويعتبر المؤلف حركة الترجمة في تلك الفترة إنها تمثل، في جميع المعايير، مطلع عصر جديد في تاريخ البشرية يستحق مقارنتة بعصر النهضة الإيطالي وبعصر الثورة العلمية في القرنين السادس والسابع عشر.
فمن خلالها تم للمرة الأولى إظهار أن «الفكر العلمي والفلسفي ذا طابع عالي، غير مقيد بلغة أو ثقافة محددة». ويرتبط استنتاج كهذا برؤية يتبناها المؤلف، وردت أصلًا في كتاب أدوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية»، فحواها إن علاقة الثقافات على مر التاريخ اتسمت بالتداخل والتأثير المتبادل، لا بالانفصال والانغلاق، الأمر الذي يفند إدعاء القائلين بوجود ثقافة نقية مكتفية بذاتها.
وتجدر الإشارة هنا أن نشير إلى ملاحظة شيَاع وهي، عدا تأمل حركة الترجمة والإشادة بمكانتها الفريدة في تاريخ الفكر العربي الإنساني، ينصرف كتاب غوتاس إلى مهمته الأساسية لتحديد الشروط الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية التي هيَّأت لظهورها، مسلمًا مسبقًا بالصعوبات الجمة التي تكتنف بحثها منهجيًا من زاوية تاريخية. لهذا يشير إلى أن «حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية ظاهرة اجتماعية معقدة جدًا، ولا يمكن اعتماد ظرف مفرد أو مجموعة أحداث، أو شخصية بعينها مسببًا لها. ويعود الفضل في دعمها وتطورها إلى عوامل متنوعة.
ويمضي شيَاع في وجهة نظره هذه مشيرًا إلى أنه على رغم تشخيصه لقلة الدراسات المخصصة لها، الذي يرجع بدوره إلى ندرة المراجع الأصلية، وإلى عدم الاتفاق على إطار نظري عام لمقاربتها وتحليلها من زاوية اجتماعية تاريخية، يقترح المؤلف الانطلاق من بعض المقدمات الثابتة والحاسمة. منها، أولًا، أن حركة الترجمة، في الفترة المشار إليها، لم تكن حركة عابرة لا سيما إنها امتدت إلى أكثر من قرنين من الزمن.
ثانيًا، إنها حظيت بتبنّي الخلفاء العباسيين ودعم النخب المكونة للمجتمع المتشكل حديثًا في بغداد عاصمة الأمبراطورية، وذلك بغض النظر عن الاعتبارات الدينية أو الطائفية أو السياسية. ثالثًا، إنها تلقت إعانات مادية سخية من الدولة ومن الجهات الخاصة. وأخيرًا، تطورت بدقة وبحرفية عالية وفق برنامج طويل المدى نهضت به أجيال من المترجمين المحترفين، أشهرهم هو حنين بن أسحاق.
وردًا على ملاحظة المؤلف غوتاس القائلة، إنه: «لولا تسلم العباسيين السلطة ونقلهم العاصمة إلى بغداد، لما كانت حصلت حركة الترجمة اليونانية - العربية في دمشق»، يقول الباحث شيَاع موضحًا، «لقد لعبت المصالح السياسية والإيديولوجية للسلطة الجديدة دورها في الانفتاح على الترجمة، أولاً من خلال اللغة الفارسية البهلوية، التي كانت وسيطًا مهمًا في نقل التراث اليوناني إلى العربية، ثم لاحقًا من خلال النقل مباشرة من اللغة اليونانية».
ويورد غوتاس في كتابه شرحًا مفصلًا لهذه النقطة، فيصف أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي الثاني، بأنه مهندس إيديولوجيا توفيقية بين مختلف المكونات العرقية والثقافية للعرب والفرس، للمسلمين وغير المسلمين، إيديولوجيا صورت حكم العباسيين على أنه، في آن واحد، تجسيد لحكم آل البيت، واستمرار لتقاليد الإمبراطورية القديمة كالبابلية في العراق والساسانية في بلاد فارس.
وأعتمد المنصور لتشييد هذه الإيديولوجيا على خلط الأفكار الزارادشتية بعلم التنجيم السياسي لتبرير شرعية حكمه، على أساس كونه ضرورة أملتها حركة النجوم، التي تسيرّها إرادة الخالق. ولا يصعب هنا رؤية وجه الشبه مع الأمويين الذين كانوا السباقين إلى طرح التفسير الجبري ليبرروا حكمهم بأنه حل بقضاء الله وقدره.
في حين يرى أن النقطة التي تستحق التوقف عندها تتمثل في الرأي الشائع عن حصول معارضة دينية سلفية لحركة الترجمة وللمعرفة الوافدة من اليونان بين القرنين الثاني والرابع الهجريين. يخالف المؤلف هذا الرأي أيضًا، ليس بالرجوع إلى الفيلسوف الكندي صاحب القول المأثور «ويجب أن لا نخجل من الاعتراف بالحق من أي طريق جاء، حتى لو جاءنا من أسلاف سبقونا أو من أمم أخرى، فغاية البحث عن الحق هو الحق ذاته»، وإنما بالرجوع إلى رأي معاصره ابن قتيبة الفقيه والمؤرخ والأديب الذي لم يشتغل بالعلوم المترجمة. والأرجح برأي المؤلف، هو حصول ردود أفعال ضد الترجمة، عند ابن قتيبة وسواه، من منطلق الدفاع عن العلوم التقليدية العربية.
ولكن ردود الأفعال الطبيعية هذه لا تنطوي بالضرورة على عداء للتراث اليوناني. أما ما اعتبر معارضة دينية سلفية للترجمة وعلومها الوافدة، فيجد تفسيره في سياسة المحنة، الشبيه بمحاكم التفتيش، التي مارسها الخليفة المأمون ضد الفقهاء وصبّت محصلتها في تأجيج العداء للمعتزلة الذين تبني المأمون مذهبهم رسميًا.
إن أهم ما توصل إليه الباحث شيَاع هو، أراد المؤلف لكتابة هذا أن يكون تمهيدًا لدراسات تاريخية أكثر تعقيدًا لموضوع الترجمة اليونانية إلى العربية في حقبة القرون الثلاثة الأولى من الخلافة العباسية. ويظن أنه بلغ غايته تلك، ليس على مستوى الإحاطة الشاملة بالموضوع فحسب، بل أيضًا على مستوى تقديم اجتهادات تتعدى ظاهرة الترجمة لتمس إطارها الذي هو الفكر العربي الإسلامي ككل. ففي هذا الكتاب ما يحفز على مراجعة قدر غير قليل من التعميمات والمفاهيم المتداولة بشأن ماهية هذا الفكر وسياقه التاريخي.