فخري كريم وتكريم حرية القمع: يساري في حضن الجلاد
سمير حميد
2025 / 5 / 28 - 17:21
في مشهد سياسي وإعلامي شديد الرمزية، صعد الصحفي العراقي فخري كريم منصة أحد أفخم المهرجانات الإعلامية في الخليج، ليتسلم جائزة "شخصية العام الإعلامية"، وهي جائزة تُمنح باسم حرية التعبير في بلد يُجرّم الرأي والتعبير، ويحجب الصحافة، ويمنع حتى تشكيل الأحزاب السياسية.
الحدث بحد ذاته يكشف ما هو أعمق من مجرد تكريم شكلي. إنه يعرّي مرحلة كاملة من انهيار الضمير المهني والسياسي لبعض المثقفين العرب، الذين انتقلوا من موقع المقاومة إلى موقع التبرير، ومن النقد الجذري إلى خطاب العلاقات العامة. فخري كريم، الذي ارتبط اسمه سابقًا باليسار العراقي والنشر الثقافي النقدي، وقف مبتسمًا وهو يتسلّم درعًا من أحد أمراء الخليج، في لحظة تلخص كل تناقضات المرحلة: أن تُكافَأ على "حرية التعبير" من أنظمة تمنع شعوبها من مجرد التنفس.
ممالك الصمت لا حرية التعبير
لنكن واضحين: هذه الجائزة تُمنح من دول لا تُجرى فيها انتخابات حقيقية، ولا يُسمح فيها بتعدد الأحزاب، ولا يعرف فيها القضاء معنى الاستقلال. دول لا تسمح بوجود نقابات مستقلة، وتلاحق كل رأي يخرج عن النسق المسموح به. في هذه البلدان، يُعتقل مغرِّد بتهمة "إثارة الرأي العام"، ويُسجن كاتب لأنه انتقد الحرب، وتُحجب آلاف المواقع لأنها لا تتماشى مع "قيم الدولة". ناهيك عن الرقابة الفظة على الكتب، والمهرجانات، والمحتوى الأكاديمي، وحتى منابر الجمعة.
في السعودية وحدها، لا تزال عشرات الشخصيات الإصلاحية رهن الاعتقال لمجرد مطالبتهم بإصلاحات دستورية سلمية. في الإمارات، يتم التجسس على المعارضين والناشطين عبر برامج مراقبة متقدمة. في البحرين، اختفت الأحزاب تمامًا تحت مسمى "حل الجمعيات" بقرارات قضائية مسيّسة. ومع ذلك، تُنظم "قمم إعلامية" لتكريم الحرية!
أي عبث سياسي هذا؟
وأي مهزلة ثقافية تُدار حين يتحول مثقف يساري إلى شاهد زور في بلاط ممالك الصمت؟
فخري كريم: من يسار المقاومة إلى إعلام البلاط
كان فخري كريم أحد الذين كتبوا يومًا ضد الأنظمة الشمولية، ورفعوا شعار الدفاع عن الحريات. أسس مؤسسة "المدى" لتكون منبرًا للحوار والانفتاح، وكان حاضرًا في مؤتمرات المعارضة العراقية قبل سقوط نظام صدام حسين. لكنه، منذ 2003، تدرّج بهدوء من مثقف ناقد إلى مستشار سياسي، ومن صوت الهامش إلى شريك في صفقات السلطة.
تكشف علاقاته الوثيقة بالحكومات المتعاقبة، لا سيما في عهد الرئيس جلال الطالباني، عن موقعه داخل منظومة الحكم، وخاصة في ظل العلاقة المشبوهة مع الطالباني والبارزاني. والآن، يتحول إلى واجهة ناعمة لأنظمة الخليج عبر بوابة الجوائز والفعاليات الممولة، في مشهد لا يمكن فصله عن الدور الذي تلعبه النخب الثقافية في تزييف الواقع وتجميل القبح السلطوي.
السؤال هنا ليس: لماذا قبِل فخري كريم بالجائزة؟
بل: هل بقي ما يمنعه؟
حين تتحول الثقافة إلى مشروع تجاري، واليسار إلى بطاقة عبور للنظام، لا يصبح التكريم من الجلاد مفاجأة، بل نتيجة منطقية.
تكمن خطورة هذه الحالة ليس في شخص فخري كريم فقط، بل في ما يمثله: نموذج المثقف الذي يرتدي قناع الاستقلالية بينما يتلقى تمويله وتكريمه من أعتى النظم القمعية. إنه التحول من "المثقف العضوي" الذي تحدّث عنه غرامشي، إلى "المثقف المقاول" الذي يبيع موقفه كخدمة تُقدَّم للمموّل.
في عالم تُدار فيه الثقافة مثل الصفقات، لا غرابة أن يُكافَأ من يُجيد الكتابة دون تفكير، أو يُتقن الكلام دون تشكيك. ومن هذا الباب، تتحول الجوائز من تكريم للمناضلين الحقيقيين إلى أوراق تين تغطي عورة أنظمة لا تطيق سماع الرأي الآخر.
التهاني الحمراء… على مذبح الكلمة
وكأن المشهد لم يكتمل إلا ببعض "الرفاق" و"المثقفين التقدميين" الذين سارعوا إلى تقديم التهاني الحارة، بل وربما دموع الفخر، لفخري كريم على "إنجازه التاريخي". تجدهم يكتبون في صفحاتهم ومقالاتهم عن "مسيرة نضالية تستحق الإشادة"، و"تتويج مستحق لرجل نذر حياته للثقافة والحرية" — ولا أحد يسأل: أي حرية؟ وأي ثقافة؟ ومن هو المموّل؟
بعضهم ممن كتب ذات يوم عن الثورة والفقراء، صار اليوم يكتب عن "الدور الريادي لدولة خليجية في دعم الإعلام الحر"، تمامًا كما تفعل وكالات العلاقات العامة، وكأن عشرات المعتقلين في سجون تلك الممالك مجرد خرافات، أو "أضرار جانبية" في معركة التنمية.
هؤلاء، رغم معرفتهم الكاملة بطبيعة الأنظمة، يختارون التغاضي. يعرفون أن الجائزة تمولها أجهزة أمنية، وأن منصات التكريم تُدار بعناية لتلميع صورة النظام. لكنهم يتعاملون معها كفرصة لـ"تبادل الصور" و"الظهور في المشهد الثقافي العربي". وكلما ارتفعت قيمة الدرع، انخفض صوت الضمير.
التهاني هنا لا تأتي من فراغ. إنها جزء من شبكة أوسع من التواطؤ الصامت. يساريون في الشكل، لكنهم أدمنوا دور "المثقف المحترف"، الذي لا يغضب من القمع، بل من عدم تلقي دعوة لحفل القمع.
وبينما تُسجن صحفية خليجية لأن مقالها لم يعجب وزيرًا، يحتفل هؤلاء بـ"الرمزية العظيمة" لجائزة تُمنح باسم حرية التعبير، وكأن حرية التعبير تُمارس في فنادق خمس نجوم، لا في الزنازين وساحات المحاكم.
من شعار المقاومة إلى درع الطاعة
إنها ليست أزمة فرد، بل مشهد كامل من ثقافة التواطؤ، حيث يُكتب التاريخ بحبر مدفوع الثمن، وتُصفّق النخب لبعضها فوق أطلال الكلمة.
ما يجري من احتفاء بشخصيات كانت يومًا تنتمي لليسار يضعنا أمام سؤال مؤلم:
هل بقي من اليسار إلا الشعار؟
هل بات يكفي أن تكون يساريًا في السيرة الذاتية، حتى وإن كنت اليوم تبارك الاستبداد وتعيش عليه؟
ما الجدوى من يسار لا يرى التناقض في تلقي جوائز من ممالك تُحاكم من ينتمي لحزب أو تيار معارض؟
اليسار الحقيقي لا يقبل جوائز من أنظمة قمعية،
ولا يضع اسمه فوق دروع تمجّد السلطة،
ولا يُشيد بـ"إصلاحات" هي في حقيقتها مجرد عمليات تجميل لوجه الاستبداد.
جائزة ممالك الخليج هي آخر ورقة توت تُغطّي ما تبقى من فخري كريم، ومن لفّ حوله من مدّعي اليسار.