![]() |
غلق | | مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار | |
![]() |
خيارات وادوات |
|
عن التخلُّف وإعادة إنتاجه
ليس التخلُّف، كما يصوّره الذهن الكسول، تأخرًا عرضيًا في سباقٍ نحو "التقدُّم"، كما لو أن البشرية كلُّها على مضمارٍ واحد، وأن من سبق قد استحق، ومن تخلّف قد قصّر. إنما هو، في حقيقته، بناءٌ تاريخيٌّ ماديٌّ ـ ناتجٌ ومُنتِج في آنٍ ـ لِهندسةٍ عالميةٍ للهيمنة، حيث لا يكون التخلُّف نقيضًا للتقدُّم، بل شرطًا له. لقد رسَّخ الفكر الرسميّ، المتداول في الدوائر الجامعية والإعلامية، تصورًا خادعًا يرى في التخلّف مجرّد تأخّر زمنيّ، تُعزى أسبابه، بسهولة تُثير الشك، إلى الاستعمار وحده. ومن ثمّ، فبزوال الاستعمار ـ كما يُقال ـ تبدأ "رحلة اللحاق"، ويصير على البلدان المتخلّفة أن تقتفي أثر "المتقدّمة"، فتحاكي سياساتها، وتستنسخ مؤسساتها، وتتمثل "قيمها"، وكأن التقدّم سلعة جاهزة، لا نمط وجود. هذا التصور الكاريكاتوري، الذي يرى في التقدّم الأوروبيّ نموذجًا كونيًّا وحيدًا، ليس إلا غطاءً أيديولوجيًّا لمنظومةِ نهبٍ معولمةٍ ترتدي قناع التنمية. ومن هنا، فإن نظرية التخلُّف السائدة، هي في جوهرها جزء من استراتيجية إعادة إنتاج التخلّف نفسه. إذ تكتفي بتحميل الاستعمار وزر الماضي، وتغض الطرف عن آليات الحاضر، بل وتسوّغ استمرار الخضوع عبر بوابة "الإصلاحات"، و"التكيّف الهيكلي"، و"النموذج التنموي الجديد"... إلخ. تلك المصطلحات التي لا تفتأ تتردد في الخُطب الرسمية، وتُروّج لها المؤسسات الدولية، وتغنّي بها النُّخب الطفيلية المستفيدة من انكشاف مجتمعاتها على الخارج. لكن السؤال الذي يُحرِّم على ذاته أن يُطرَح في تلك الأروقة: لماذا بعد أكثر من نصف قرن على ما يُسمّى بالاستقلال، لا تزال بلداننا تُعيد إنتاج تخلّفها كل صباح؟ لماذا لا يُطرح هذا السؤال إلا لتُغتال إجابته مسبقًا؟ الجواب ـ في جوهره ـ يتصل بقانون القيمة، ذلك الشبح الذي يُرعب النظام الرأسمالي العالمي، ويقضّ مضجع نُظُمِنا المحليَّة التابعة. فقانون القيمة لا يكشف فقط عن علاقة الاستغلال داخل المجتمع الواحد، بل، وهو الأهمّ هنا، يُظهر آلية السطو الدوليّ على الفائض. لا تُنتج بلداننا التخلُّف لأنها لا تعرف "الطريق الصحيح"، بل لأنها مُلزَمة بإنتاجه، لأنّ القيمة التي تنتجها لا تُراكم داخلها، بل تتسرّب خارجها عبر قنوات التبعيّة: التجارة غير المتكافئة، تحويلات الأرباح، مديونية بلا أفق، تبعيّة تكنولوجيّة، وتخريب منهجيّ للإنتاج الحيّ. وهذا التسرّب المستمر للقيمة، هو العمود الفقريّ لما أسميه إعادة إنتاج التخلّف. إذ إن الاقتصادات التابعة، بدلًا من أن تراكم قيمة قادرة على إعادة إنتاجها ذاتيًا، تنزفها يوميًّا لصالح مراكز النظام الرأسمالي. وكلّما ازداد "الاندماج" في السوق العالمية، ازدادت التبعيّة، واتّسعت الهوة، لا بفعل الزمن، بل بفعل البنية ذاتها. وهكذا، يصبح التخلُّف حالة بنيوية، لا عَرَضًا زمنيًّا. ولا سبيل لفهمه، ناهيك عن تجاوزه، دون تفكيك هذا النمط من علاقات القيمة، الذي يُنتج في المركز فائضًا، ويُنتج في الأطراف خرابًا.
|
|