اقتصاد اليابان في ظل اضطراب الإقتصاد العالمي
الطاهر المعز
2025 / 5 / 26 - 10:32
ارتفع سعر الدّولار خلال شهر تشرين الأول/اكتوبر 2023 وبلغ أكثر من 150 يناً، وهو أعلى مستوى له خلال 32 عاماً، وأدت سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إلى جانب توقعات التضخم المستمرة، إلى دفع العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل عشر سنوات إلى 4%، فيما يواصل بنك اليابان إبقاء العائد على سندات الحكومة اليابانية لأجل عشر سنوات بالقرب من الصفر، يقوم البنك المركزي الياباني بشراء السندات للحفاظ على العائدات حول الصفر، ونتيجة لذلك تعمقت فجوة العائد المضاربين إلى بيع الين وشراء الدولار، مما يضع ضغوطا هبوطية قوية على العملة اليابانية، ثم، وبحلول منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، انكمش الاقتصاد الياباني للمرة الأولى طيلة أربعة فُصُول، بسبب التضخم الذي بلغ 4,2% وضُعْف الين، وأعلن اليابان – منتصف كانون الثاني/يناير 2024 - عن عجز تجاري سنوي منخفض قياسي بلغ 155 مليار دولار سنة 2023، واتخذ البنك المركزي قرار خفض تكاليف الاقتراض...
بعد هزيمة اليابان بنهاية الحرب العالمية الثانية دعمت الولايات المتحدة اقتصاد اليابان ( وألمانيا) لأسباب جيواستراتيجية، إلى أن أصبح اليابان، خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة، وكانت عملته ( الين) من بين أقوى العملات، وأجبرته الولايات المتحدة، سنة 1985، من خلال اتفاق بلازا الذي كرّس سيادة الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)، على رفع قيمة العملة، فكانت بداية انحدار اقتصاد اليابان، قبل أن يصل إلى الحضيض بعد توقيع اتفاقية أشباه الموصلات سنة 1986، ويتطلب ذلك بعض التوضيح، فقد أدى الركود في سوق الكمبيوتر في الولايات المتحدة سنة 1985، إلى أن تشهد شركة إنتل أكبر انخفاض لها منذ أكثر من عشر سنوات، فيما كان اليابان رائدا في تصنيع منتجات التكنولوجيا الاستهلاكية للغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، وتفوق اليابان على الولايات المتحدة في سوق ذاكرة ( DRAM ) بفضل الاستثمار في مرافق الإنتاج والأتمتة، وتمكن اليابان من إنتاج المنتجات بشكل أسرع وأرخص من الولايات المتحدة، مع تمتعها أيضًا بجودة أعلى، فكانت بداية ترويج الحديث عن "الممارسة غير العادلة لتجارة اليابان" ( وهو ما يقال اليوم عن الصين) وفرضت الولايات المتحدة سنة 1986 توقيع اتفاقية أشباه الموصلات، وارتفعت حصة الولايات المتحدة في السوق اليابانية إلى 30% خلال خمس سنوات، مما مَكّن شركات التكنولوجيا الأمريكية من العودة إلى المنافسة، ثم فرضت الولايات المتحدة سنة 1987 رسوما جمركية بنسبة 100% على بعض السلع اليابانية بقيمة 300 مليون دولار...
أدى ارتفاع قيمة الين إلى رُكُود الصناعة اليابانية وبدأ بنك اليابان في خفض أسعار الفائدة، ولكن لم تتجه الأموال الرخيصة نحو الصناعة، بل إلى المضاربة في العقارات وسوق الأوراق المالية، وخلال سنوات قليلة ( من 1985 سنة اتفاق بلازا إلى 1989 سنة وفاق واشنطن )، ارتفعت أسعار الأسهم في اليابان بنسبة 240%، وارتفعت أسعار الأراضي بنسبة 245%، مما دفع الاحتكارات إلى الإستثمار في المُضاربة بدل الصناعة، وعلى سبيل المثال كانت شركة نيسان تجني المزيد من الأموال من المضاربة أكثر من صناعة السيارات، وأدّى ارتفاع الأصول العقارية للقطاع الخاص إلى خلق فقاعة ضخمة انتهت بالإنفجار، بعد بتقييد الإقراض العقاري، حيث توقفت أسعار الأراضي والمساكن عن الارتفاع سنة 1989، وانخفضت سوق الأسهم سنة 1990 بنسبة 32%، في حين كانت المصارف مثقلة بأصول سامة، فتم إيقاف القروض وفقد أكثر من خمسة ملايين عامل ياباني وظائفهم ولم يتمكنوا من العثور على وظائف أخرى، وارتفعت نسبة انتحار الرجال الذين فقدوا عملهم والذين تتراوح أعمارهم بين 20 و 44 عاما، واستمرت الأزمة، فأعلنت 212 ألف شركة إفلاسها بين سنَتَيْ 1990 و2003، أعلنت 212 ألف شركة إفلاسها، وانخفضت سوق الأوراق المالية بنسبة 80% وانخفضت أسعار الأراضي في المدن الكبرى بنسبة تصل إلى 84% خلال نفس الفترة، وحاولت الحكومة معالجة الوضع من خلال تعزيز الطلب المحلي وزيادة الإنفاق العام على مدى عشر سنوات، فارتفع حجم الدّيْن العام وبلغ 230% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2011، وهي النسبة الأعلى في العالم.
لا يزال الإقتصاد الياباني مُهدّدًا سنتيْ 2024 و 2025، بسبب الدّيون الأمريكية، لأن صندوق استثمار المعاشات التقاعدية العامة، الذي يحتفظ باحتياطيات الضمان الاجتماعي لجميع العمال اليابانيين تقريباً، والذي يبلغ حجمه 1,5 تريليون دولارا، يمتلك ديونا ( سندات ) أمريكية بقيمة أربعمائة مليار دولارا، ويحتاج اليابان حاليا إلى السيولة، ما قد يضطره إلى بيع الدّيون الأمريكية بسعر منخفض، لدعم هبوط الين من خلال شراء أصول يابانية، أي تحويل الأصول المُقَوَّمَة بالدّولار إلى أُصُول مُقوَّمة بالين، مما قد يؤدي هذا إلى انهيار سوق الخزانة وتدمير المالية الأميركية، لأن هذه العملية تُعادل نحو 20% من صافي الدين السنوي للولايات المتحدة، أي زيادة المعروض من سندات الخزانة الأمريكية بنسبة 20%، بعد إنفاق وزارة الخزانة مبلغا قياسيا قدره 140 مليار دولار في مدفوعات الفائدة للحفاظ على جدول سداد الديون، ومن شأن زيادة المعروض من سندات الخزانة أن تعسِّرَ عملية بيع الحكومة الأميركية سندات جديدة ( وتقديم سعر فائدة أَعْلَى) لتمويل العجز الهائل في الميزانية...
سبق أن باعت روسيا كل سندات الخزانة الأمريكية التي تمتلكها، وتبيع الصين، ثاني أكبر حامل أجنبي للديون الأميركية، هذه الديون بأعداد كبيرة، بعد أن باعت ثلثها خلال السنوات الخمس الماضية، وإذا أقدمت اليابان، أكبر حامل للسندات، على بيعها بأسعار منخفضة، فسوف يكون ذلك بمثابة جرس إنذار لوزارة الخزانة الأميركية، لأن العالم فقد الثقة في قدرة الحكومة الأمريكية على سداد ديونها، ولم يعد الدولار ملاذا آمنا، لأنه فقد حوالي 20% من قيمته خلال ثلاث سنوات ونصف، مما أدى إلى محو تريليونات الدولارات من ثروات حاملي السندات في جميع أنحاء العالم، ولذلك بدأت بعض المصارف اليابانية تصفية حيازاتها من سندات الخزانة، مثل نورينشوكين والبريد الياباني...
حاولت حكومة اليابان التفاوض مع الولايات المتحدة، منذ بداية 2025، دون فائدة، ورفضت الحكومة الأمريكية إعفاء اليابان من زيادة الرّسُوم الجمركية التي قد تكلف اليابان، رابع أكبر اقتصاد في العالم، غالياً، وارتفعت الأصوات التي تُطالب بإعادة مكانة اليابان الإقتصادية، ووضع حدّ للهيمنة النقدية الأميركية، خصوصًا مع فقدان ثقة العالم في الدّولار واستبداله بالذّهب الذي ارتفعت قيمته بنسبة 30% خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2025، غير إن الإقتصاد الياباني مرتبط بالهندسة الدفاعية والتدفقات التكنولوجية للولايات المتحدة.
رغم التضخم المستمر وارتفاع أسعار المُستهلك الياباني إلى 3,2% خلال شهر آذار/مارس 2025، لم يرفع بنك اليابان أسعار الفائدة، التي تبلغ حاليا 0,5%، لأن توقعات النمو الاقتصادي انخفضت إلى النصف: من 1,1% إلى 0,5%، غير إن رئيس الوزراء الياباني شيجيرو إيشيبا وصف وضع بلاده بأنه "أسوأ من اليونان في أسوأ حالاتها" ( بلومبرغ 20 أيار/مايو 2025)، لكن اليابان يتمتع بنفوذ هائل على الاقتصاد العالمي، خلافًا لليونان، فقد دخل اليابان في حالة ركود سنة2023، بموازاة ارتفاع التضخم إلى 3,6% وارتفاع حجم الدَّيْن إلى نسبة 260% من الناتج المحلي الإجمالي (أكثر بكثير من اليونان)، وارتفعَ العائد على السندات الحكومية لأجل 30 عامًا رسميًا إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، وأصبحت الديون الضخمة مكلفة، فقد بلغت الدُّيُون نحو تِسْع تريليونات دولار ( تُعدّ اليابان الدولة الأكثر مديونية في العالم) لكنها تمتلك 1,1 تريليون دولارا من الدّيُون الأمريكية، وهي أكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة، مما يزيد من تشابك الأزمة المالية في اليابان والولايات المتحدة...