تحولات الرأسمالية وهيمنة العولمة ومآلاتها
غسان الرفاعي
2025 / 5 / 22 - 14:41
منذ بدايات القرن العشرين ، شكّل بروز المؤشرات الاولية عن بدء تبلور " العولمة " ، كظاهرة جديدة نوعية في تطور نمط الانتاج الراسمالي ( الى جانب المتغيرات الجيوسياسية النوعية الكبيرة التي اسفرت عنها الحرب العالمية الاولى ) نقطة انعطاف مهمة في تطور التاريخ المعاصر : كتب لينين كتابه النظري المهم " الامبرياية اعلى مر احل الراسمالية " ، في محاولة لكشف الافاق التاريخية لتطور عالمنا الذي باتت تحدد توجهاته الاساسية الراسمالية المعاصرة ... ، مع طرح إضاءات نظرية لإستقراء مصائر نمط الانتاج الراسمالي نفسه بالذات ، تحت ضغط التحولات الجارية .
بالمقابل ، وبالموازاة ، استشعر الرئيس الاميركي وودرو ويلسون بان التغييرات التي احدثتها الحرب العالمية الاولى على الخريطة السياسية ، وما ادت اليه من تغيير في موازين القوى الجديد الناشىء الذي ازاح " الخصوم " !... وأضعف " الحلفاء " ، يُتيح في الواقع للولايات المتحدة ، من جهة ، تبرير خروجها من " العزلة " التي ادعتها طيلة الفترة السابقة لكي تتفرغ لفرض هيمنتها المطلقة كاملة على الداخل الاميركي بعد الانتصار في حرب الاستقلال... ومن جهة اخرى ، رأى ويلسون في النهايات التي اسفرت عنها الحرب مؤشراً بأن الوقت قد حان لتطوير زعامة الولايات المتحدة من حيث كونها " سيادة عامة " ( التي سبق التسليم بها باجماع دولي ) ... لتحويلها الى " قيادة آمر ية" تطرح وتصوغ عناوين وبنود الخطط والاتفاقات المطلوبة لتحقيقها باسم " تجنب " الحروب وتحقيق السلم بين الشعوب !!... حال البدء في نقاش وصياغة تلك الاتفاقات ظهرت الخلافات الى العلن ، واحتدمت الصراعات ، خصوصا بين الثلاثة الكبار : وودرو ويلسون ( الولايات المتحدة ) ، ولويد جورج ( المملكة المتحدة ) ، وجورج كيليمنصو ( فرنسا ) : فكان اعتراض ويلسون على اقتراح جنيف مقراً لمؤتمر الصلح ! إذ فضّل باريس (؟؟) ... ، ثم هدد برفض التصيق على معاهدة فرساي " لأن الدول الاوروبية تحاول الاستئثار بنتائج الحرب ! " ... ومن الطبيعي ان يُجابه الموقف الاميركي بالمقابل بموقف التحفظ على النقاط الاربع عشر التي حملتها وثيقة ويلسون كمشروع وثيقة لتنظيم العلاقات الدولية حسب الرؤية الاميركية !
رغم كل ذلك كان لابد في النهاية من أن يتفق الشركاء المختلفون المتنافسون على تسوية ما : فالخراب والدمار العام في البنى التحتية وفي العملات الوطنية كان عاما شاملا جميع البلدان الاوروبية ... مع ذلك ظل عامل القلق الاكبر و" الاخطر" الذي بات يقلق مراكز القرار في البلدان الراسمالية الرئيسية : كيف ينبغي مواجهة ذاك التحول السياسي الذي احدثته ثورة اوكتوبر الاشتراكية التي اخرجت روسيا والعديد من الدول الاوروية من اطار السيطرة المباشرة للراسمالية ... وأسس ذلك نهجاً ثابتاً لممارساتها في السياسة الدولية منذ ذلك الحين . في هذا " الصراع الودي " انتزعت الولايات المتحدة " حصتها " في هذه التسوية بالحصول على23.25% من بترول العراق باخذها من " حصة بريطانيا " ، وصار لها دور وحصة في بترول رومانيا ايضا ... ، مقابل تغطيتها مشاريع السيطرة الاستعمارية لكل من بريطانيا وفرنسا في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها ، مع ممارسة الضغط لزيادة الحصة ، سواء عن طريق اللجوء الى اقتراح مناورات " الاستفتاءات " الشعبية لتغطية نظم الانتداب على كل من سوريا ولبنان ، او لتكريس وعد بلفور كاستراتيجية لقيام الكيان الصهيوني ، أم " بعقد معاهدة " مع تركيا ( المهزومة في الحرب ) تسمح للولايات المتحدة بحق التنقيب عن البترول في مسافة عشرة كيلومترات من ضفتي نهر دجلة في منطقة كانت تُعتبر " متنازع عليها " في محافظة الموصل التي يحتلها الجيش البريطاني ، وصارت خاضعة لسيادة المملكة العراقية الفتية التي قامت نتيجة الحرب وتقاسم ولايات الدولة العثمانية. ومما زاد الامور تعقيداً وخطورةً نشوء بؤرتي الحرب والانتقام في وسط اوروبا : النظام الهتلري في المانيا والنظام الفاشي في ايطاليا ... مما يزيد التوتر في العلاقات الدولية ، وان يسرّع في تجميع غيوم حرب جديدة ... مع مؤشرات تنذر بازمة اقتصادية شاملة وعميقة ( 1929- 1939 ) سرعان ما اجتاحت ، بصورة اساسية ، اسواق البلدان الراسمالية الرئيسية واقطار العالم باسره ، لتضاعف الاحتقان والتوتر والمخاطر ، ولتمهد وتسرّع وقوع " الواقعة " : اندلعت الحرب العالمية الثانية ، كما كان متوقعاً ، جارفة اوروبا والعالم الى اتون الموت والدمار !...
مع ذلك ، ورغم التضحيات الجسام ، يمكن القول بان الحرب لم تنته " بالاسوأ " كما كانت توحي المخاوف السائدة : كانت النتيجة هزيمة تحالف الهتلرية - الفاشية ... ولم يكن المنتصرون فيها ، بصورة حصرية ، من الدول الراسمالية المنافسة وحدها ، كما كان الامر في الحرب الاولى : فقد كانت لمشاركة الاتحاد السوفياتي بجهدٍ عسكري كبير وتضحيات شعبية هائلة دور حاسم في تحقيق هذا الانتصار . ومن الطبيعي ان يكون لكل ذلك انعكاساته السياسية على المرحلة اللاحقة للحرب على غير ما حصل في حرب ال 14.
*******
استراتيجية ترامب " الجمركية "، التي قُدمت تحت شعار " اميركا اولاً "، جوبهت من مواقع سياسية ومالية واكاديمية و (...شعبية ) في العالم كله ، بما يتجاوز النقد الى الرفض : فهو لم يشخّص لا " المرض" ، ولا المريض الحقيقيين ...، ولا اختار العلاج المناسب !... لقد رأى ان الخلل يولده عدم التوازن( السلبي ) في الميزان التجاري للولايات المتحدة مع سائرالبلدان ، محملاً اياها المسؤولية... فارضا نسبا عالية من الرسوم على البضائع الداخلة ! لا يمكننا اعتبار هذا التفسير إلا مغالطة سياسية اولاً، ، وانها " تهريبة " مالية ثانياً ،... وهي فوق كل ذلك خدعة اكاديمية ثالثاً !... فكل العام يعرف بان الولايات المتحدة لجأت الى القروض الخارجية منذ زمن ، وقد فاق حجمها ال 125% من حجم الناتج الاميركي المحلي منذ سنين ، واخذ يهدد مكانة الولايات المتحدة في السوق الماية العالمية مع تزايد عدم القدرة على دفع مستحقاتها السنوية ! وهذا الامر اضطر الادارة الاميركية الى الطلب من الكونغرس بين فترة واخرى إقرار قانون لرفع سقف القروض المسموح للادارة بعقدها . وفي هذا السياق رفع الكونغرس السقف سنة 2021 بمقدار 2.5 تريليون دولار ليصل الى 31.4 تريليون ... لكن يبدو ان الحاجة فرضت من جديد رفع السقف ليبلغ حدود ال 37 تريليون دولار في 2025. ومنذ ايام قُدّم الى الكونغرس طلب جديد برفع السقف بمقدار خمسة تريليونات دولار اضافية !!
من الواضح ان هذ ا التداعي السلبي في الارقام يؤكد ، قبل كل شيء ، تفاقم وتعمق متمادٍ في ميل الازمة في الولايات المتحدة نفسها ، بالدرجة الاولى ... ، مع ما تحمله من انعكاسات سلبية حتمية خطيرة على مجمل الاوضاع الا قتصادية العالمية. ومن جهة ثانية ، لابد من الاشارة الى ان بلوغ الدين السيادي الاميركي الى هذا الحجم الخطير مع تطلبٍ باضافات دورية عليه كل بضع سنوات ( مع واقع عدم قدرة الادارة على دفع الاقساط السنوية المستحقة ) يحوله الى نوع من الاستحواذٍ الكامل ، بل الى نوع من المصادرة القسرية مفروضة على العالم ! في ضوء رؤيتنا هذه نؤكد بان " المريض! " الحقيقي هو تحديدا النظام الاقتصادي الاميركي اولا ... والمريض الثاني " بالتداعي" هو مجمل الاقتصاد العالمي الذي يضم بلداناً رأسمالية اقل حجماً وقوة من الولايات المتحدة ، معها منظومة كبيرة من دول نامية تحاول بناء ذاتها اقتصاديا واجتمىاعيا وسياسيا وفق " اجتهاداتها الوطنية " وامكانياتها ، وعلى الصعيدين تنمو بذور خلا فات وتناقضات... وتقدم الصين من جانبها نموذجاً متقدما ، مميزاً خاصاً على صعيد البناء الاقتصادي والتطور العلمي والتكنولوجي . هكذا صرنا نتلمس بوادر جبهة معارضة عظيمة : عفوية كانت ام طبيعية ، بوجه استراتيجية الرئيس ترامب .
لعل قيام ائتلاف بريست واقتراحه اللجوء الى عملة بديلة للدولار في التعاملات والتبادلات الدولية ( مع امكان استخدام العملات الوطنية ) يطرح اشارات اضافية قوية وواضحة ذات ابعاد مستقبلية على ان عالمنا بات يحتاج الى تكييف وتطوير نوعي في مساراته وعلاقاته الاستراتيجية كافة : السياسية والاقتصادية والمالية والايديولوجية مع إسنادها بضمانات اجرائية تؤمن نهجاً وممارسات ديموقراطية حقيقية تعكس وتلبي مصالح الشعوب في التطور على كافة الصعد . *******
في فهمنا وقناعتنا ان حاجز السواد الذي يتعاظم ويشدد الخناق على تطور نظام الانتاج الراسمالي الاميركي والعالمي إنما هو النتاج الطبيعي لفعل القوانين الموضوعية الفاعلة في قلب نظام العمل المأجور التي سبق ان كشفها ماركس..: وابرزها التناقض بين الاجر والملكية الخاصة لوسائل الانتاج مع الميل الدائم الى التوسع فيما بين " الوحدات الانتاجية " في ظل التنافس وتفاوت التطور بينها وطنياً واممياً مع ما يولده ذلك من ميل دائم الى تركز الراسمال وتمركزه . وقد احيطت هذه العملية خلال المئة سنة المنصرمة ( قبل حلول عهد العولمة ) ، بدور اساسي من الولايات المتحدة ، بطرح وفرض سلسلة من التدابير التنظيمية والادارية والقانونية داخل كل بلد ، وبصيغ اتفاقات فيما بين الدول ، لضبط حركتها من التأثيرات السلبية لتناقضاتها الداخلية الخاصة ، والتناقضات " البينية " ، ولتؤمن بذلك هيمنتها الكاملة على تطور الاقتصاد العالمي. لكن يبدو ان العولمة اخذت تحطم هذه " الخصوصيات " في تطور الراسمالية ، كما كانت تفعل في السابق ، في اطار الدولة او القطر او النظام !.. وان تدابير الحماية والدفاع الداخلية عن النظام : السياسية والقانونية منها ( الدولة كجهاز هيمنة وتحكم والاحلاف العسكرية والاتفاقات على انواعها والميادين التي تناولتها ، وتدابير ونظم الادارة وقيادة العمل الاقتصادي - المالي على النطاق الوطني وما بين الدول ، التي كان للولايات المتحدة الاميركية الدور الاكبر والحاسم في اقتراحها وصياغتها وسبل الاشراف على تطبيقها )... لم تعد قادرة على تأمين الاستقرار اولا ، ولا التطور والنمو المتناسق للاقتصاد : فصارت كلها مواضيع اجتياحات عسكرية وانقلابات و "حروب اهلية " ترعاها وتمولها دول راسمالية كبيرة متناقضة فيما بينها بما تحدده وتغذيّه العولمة بطموحات تحقيق دور الهيمنة العالمية المطلقة !
لاشك ان لوحة النضال جد معقدة ، كما حاولنا تلمس ابرز ملامحها العامة في ما اتيح لنا من الوصول الى معطيات موضوعية وقدر ات ذاتية على الاحاطة !... قدمت شعوبنا في السنوات الماضية تضحيات بالغة وبطولات جسام !... وما ينتظرنا من نضالات مقبلة يتطلب ان نتقن اكثر من اي وقت سابق ما تفرضه الحكمة القائلة بأن السياسة علم وفن ، وذلك ليس لأن الاعداء يجددون هجومهم الشمولي وحسب ، بل كذلك لأن القوى الرجعية الداخلية والاقليمية ُتبّرد تناقضاتها البينية ، وتعزز تحالفاتها مع القوى الاستعمارية من اجل اعادة هيمنتها الكاملة المشتركة على مصائرتطور بلداننا وشعوبنا وطنيا وقوميا.
ومن جهة ثانية لابد من الاخذ بعين الاعتبار بان الحراك الشعبي في بلداننا ، وفي العالم ايضا ، ليس في المستوى الذي كان عليه في كل العقود الاخيرة من القرن الماضي . وهذا الامر يفسح المجال امام تحالف دول طغيان الراسمال الاحتكاري العالمي والرجعيات المحلية بتنفيذ اتراتيجياتهم ! وهذا الامر ، وبصرف النظر عن الاسباب والمسؤوليات السابقة ، فان الخطوة الاولى التي تستوجبها وتفرضها متطلبات النضال ، حسب رأينا ، هي استعادة تقاليد وامجاد العقود الماضية في بلادنا ( وفي العالم ) باستنهاض الجماهير ذات المصلحة للنضال وفق استراتيجية واقعية اصلاحية ، لمواجهة ورد استراتيجية قوى العدوان ، ولتحسين التوازن السياسي على الصعيد الدولي من اجل فتح السبيل للتقدم السياسي– الاجتماعي والتغيير الديموقراطي لصالح شعوبنا وشعوب العالم اجمع ... يُمهد لها ، عالميا ووطنيا ، بتنظيم حوارات ونقاشات ودراسات فيما بين مفكرين ومراكز ابحاث واحزاب سياسية من مختلف البلدان .
اننا نرى ونقترح بان تقوم مؤسسة الحوار المتمدن والمفكر رزكار عقراوي بمسؤولية تنظيم وادارة مثل هذه المبادرة ... ، لأن المؤسسة ، بتاريخها وبكفاءات العاملين فيها مؤهلة للقيام بهذه المهمة .
غسان الرفاعي