![]() |
غلق | | مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار | |
![]() |
خيارات وادوات |
|
النيوليبرالية العربية: عن عبودية السوق واستقالة الدولة
في زمنٍ عَربيّ فريد، حيث تحوَّلت الدَّولة من "كيانٍ سياديّ" إلى مكتب خدمات استثماريَّة، وقد صار الْمواطن أصلًا من أصول الدَّولة، تندفع أنظمتنا العَربيَّة، بهمة مدير فرع بنك استثماريّ، إلى تبني سياسات الاقٍتصَاد النيوليبرالي، لا عن اقتناعٍ نظريّ أو فهم تاريخي، بل عن طاعة عَمياء لأوامر "السيد" في واشنطن أو لندن. لقد هجرت الدَّولة العربيَّة مهامها التَّاريخيَّة، وتخلّت عن أدوارها السياديّة، لتتحول إلى وسيطٍ عقاريّ يعرض خدمات الصّحة والتَّعليم والطَّاقة والمياه والبشر في بورصة الْأسواق الدوليَّة. كل شيء صار مباحًا: من خصخصة المستشفيات، ورفع الدعم عن الخبز، إلى خنق العامل بـ"كود الضمان الاجتماعيّ"... والمواطن؟ لا يزال يُطلب منه أن يصبر، أن يشد الحزام، أن "يفهم" تعقيدات السُّوق الحرة! ألم يكن من الأجدر أن نعلن الوظائف الحقيقية لوزاراتنا؛ وزارة التربية: يمكننا تسميتها "مركز تنمية الرَّأسمال البشريّ". وزارة الصَّحة: "وحدة استدامة جسد العامل". وزارة الداخليَّة: "شركة تأمين ضد الاضطرابات الاجتمَاعيَّة". أما وزارات الثقافة، فأصبحت مكاتب علاقات عامة للنظام، وظيفتها تنظيم مهرجانات "للإبداع الرَّأسمالي" وتنظيف وجه الاستغلال باسم "الفن"، أو باسم "ريادة الأعمال" الَّتي أمست بديلًا محترمًا لكلمة "البطالة". لقد استباحت الأنظمة العربيَّة مفردات النيوليبرالية حتى الثمالة، فصرنا نسمع عن "إعادة الهيكلة"، "تحفيز السُّوق"، "توسيع قاعدة المستثمرين"، دون أن نسمع ولو لمرة واحدة عن "إعادة توزيع الثروة"، أو "العدالة الاجتماعيَّة"، أو حتى عن "كرامة الإنسان"! يبدو أن الكرامة في زمن السُّوق لا تُسوَّق جيدًا، ولا تُدرّ عائدًا يُذكر. والمفارقة أن مَن يقود هذه السّياسات هم نُخب ارتدوا بدلات مُقاسة على مقاس صندوق النَّقد، يتحدثون بلغةٍ لا يفهمها أحد سوى مدير البنك المركزيّ أو المستشار الماليّ الْجديد، ويخطبون في الشعب عن "العبور إلى المستقبل" بينما الشعب نفسه يعبر يوميًا إلى القبور. في هذا المشهد المأساوي الهزليّ، لا نملك إلا أن نسأل: متى ترفع هذه المجتمعات راية العصيان على عبودية السُّوق؟ متى تخرج من سُباتها التَّاريخيّ وتكفّ عن استهلاك أوهام التنمية؟ متى تفهم أن الرَّأسماليَّة، لا سيما في نسختها النيوليبرالية، ليست وصفة للنهضة، بل مرض مزمن يُصيب الدول الَّتي لم تصنع تاريخها بنفسها، فتبتلعها المؤسَّسات الدوليَّة، للإبادة الإنسانية، كما يبتلع الثقب الأسود كل ضوء؟ لكننا، للأسف، نعيش في بلاد لا تريد أن تعيد إنتاج تاريخها، بل تستورده جاهزًا، ملفوفًا في ورق نقدي أخضر، مختومًا بختم: "معتمد من السُّوق الحرة".
|
|