سرّ إنتاج المعرفة


محمد عادل زكى
2025 / 5 / 22 - 09:42     

ليس من جوهر الْمسألة المعرفيَّة في شيء أن يُطرَح السُّؤال لأجل الْحصول على جواب، فالإجابة، كإجابة، لا تحتل مكانة أولى في مدارج الْوعي؛ إنما الطَّريق، منهج التفكير، هو وحده ما يشكل القِيمَة المعرفيَّة الحقيقيَّة. فحيثما كان العقل يسلك مسلكًا سليماً في التَّأمل والتَّحليل، تكون الإجابة، إن أتت، سليمة في إطارها التَّاريخيّ والاجتماعيّ دون ادّعاء امتلاك للحقيقة الْمطلقة. وإذا نحن ألقينا نظرة فاحصة على التَّاريخ، رأينا كيف سادت الحضارة الإسلاميَّة، في لحظةٍ مخصوصة من مسيرة الإنسانيَّة، حينما كانت أوروبا ترزح تحت وطأة الكنيسة الإكليريكيَّة وسياط الملكية الإقطاعيَّة، وكان الْوعي البشريّ مسحوقًا بين مطرقة الاستبداد وسندان الخرافة، فإذا بالعقل الإسلاميّ يبرق من خراسان إلى قرطبة، يضيء ليل الْعالم الوسيط، لا بما حمل من معارف، بل بما كشف من طريقة في إنتاج الْمعرفة. فالقرن الرَّابع الهجري، على سبيل المثال، لم يكن زمنًا لوفرة الأفكار فحسب، بل كان لحظة كاشفة لآلية توليد الفكر، لحظة انبثاق "سرّ إنتاج المعرفة". هذا السر الَّذي لم يكن خطابًا عن التراث أو احتفالاً بالسبق، بل كان فاعلية عقل نقدي جدليّ، باحث عن قوانين الحركة، ساعٍ إلى إدراك الجوهر خلف العرض، والضرورة خلف الطَّارئ. ولعل من أكثر ما يُثير الامتعاض، أن تتكرر موسميًّا تلك الدعوات الْعقيمة لإحياء الْفكر العَربيّ أو استعادة مجد التراث الإسلاميّ، دون أن نُبصر سوى اجترار باهت لأخبار ومرويات ومقارنات سطحية مع الفكر الأوروبيّ، على نحو يُوهم بأنَّ الْماضي حيٌّ، فيما الحاضر لا يعدو أن يكون ميتًا يتحرك. هو ماضٍ يُستحضر لا ليفعل في الحاضر، بل ليتخذ منه حجابًا يقي من أسئلة الزمن. لقد صيغت عبارات نمطيَّة من قبيل: "علّم الْمسلمون العالم"، و"أنقذوا أوروبا من ظلماتها"، حتى باتت تلك الأقوال جزءً من سرديَّة عُصابية لا تعنى بالتَّحليل بل بالإيهام، ولا تسعى إلى إدراك العلل بل إلى التَّعميم، وهي بهذا ليست سوى تنويعات على جهلٍ منتفخ بالذَّات. إن الإجابة الْوحيدة الممكنة، الجديرة بالتأمُّل، هي أن المسلمين في ذروة تحقّقهم التَّاريخي، قد علّموا الإنسانيَّة كيف تُنتج المعرفة. فالمسألة لا تكمن في المعلومة، بل في العقل القادر على توليد الفكرة، وفي الذهنيَّة الَّتي تنتج الْمنهج، وفي التجريد الَّذي يلاحق القانون وسط الفوضى الظَّاهرة. ولذلك فإن أزمة التعليم، وهي هي أزمة الفكر، في الأقاليم الطرفية من النظام الرَّأسمالي العالمي، وعلى رأسها عالمنا العَربيّ، إنما تتمثل في فصل الفكر عن العملية التعليميَّة، وتحويل المعرفة إلى تكديس عدديّ للمعلومات، لا إلى أداة لفهم الْعالم وتحويله. تعليمٌ يعزل الطَّالب عن التَّاريخ الْحي للعقل، فيُراد له أن يحفظ لا أن يُفكر، أن يُكرّر لا أن يبدع، أن يُلقّن لا أن يَستنبط. إن جوهر ما بلغته الذهنية الإسلاميَّة في عصرها الذَّهبي لم يكن تراكمًا معرفيًّا فحسب، بل كشفًا لقوة العقل في التَّجريد، وفي ربط الْجزئي بالكلّي، والظَّاهر بالباطن، والمحدود بالمطلق. وهذا هو، في التَّحليل الأخير، سرّ إنتاج المعرفة.