البورجوازية العربية البيروقراطية الهرمة والركود التاريخي
هيفاء أحمد الجندي
2025 / 5 / 16 - 14:40
البورجوازية العربية البيروقراطية الهرمة والركود التاريخي هيفاء أحمد الجندي
اعتبر ابن خلدون أن الدولة القائمة على العصبية هي دولة آسيوية ، قائمة بدورها على قاعدة مستقرة من علاقات إنتاج تتميز بغياب الملكية الخاصة ، وفكرة ابن خلدون هذه تتطابق مع تحليل ماركس لهذا النمط والذي اعتبر الدولة هي الحائز الأول على الفائض والمنظم لعملية الإنتاج في المجتمعات الاسيوية ، كما حلل أيضا كيفن أندرسون هذه البنية و كما ورد في كتابه "في الدولة الاستبدادية" ،معتبرا الطبقة الرئيسية للسيادة هي حق السلطان المطلق في استثمار كافة موارد الثروة داخل مملكته والحياة والثروة ارتبطا بالدولة وكانت المنزلة الاجتماعية ، لا تخرج عن نطاق المناصب وكان ثمة ارتباط بين غياب الملكية الخاصة وبروز ملكية الدولة ، ويدفع الريع لها بوصفها مالكة للأرض في المجتمعات الآسيوية والتي تتميز بدرجة عالية من التطور لجهة بناءها الفوقي، حيث يلعب الدين والايديولوجية دورا هاما في مجال إدارة العملية الانتاجية والتوزيعية وتقوم بتحصيل الخراج ، الذي يأحذ شكل الضرائب وفي العصر العباسي قام الخلفاء باعادة توزيع الأرض على ذويهم ومحاسيبهم وبيروقراطيتهم ، واكتمل في هذا العهد مفهوم الدولة الجابية المالكة ، اذ كان يرأس الولايات أميرا للجيش تنحصر مهمته في جباية الضرائب ، و كانت الدولة مالكة للأراضي الخراجية والتي كانت تسمى بالضياع السلطانية وهي أملاك لكبار البيروقراطيين وكانت هذه البيروقراطية ، تقوم بامتصاص دم شعب مكبل بجميع حبال الاستبداد وكان الالتزام هو النمط السائد في جباية الدولة لخراج أراضيها ، ولم يكن الملزم اقطاعيا بل بيروقراطيا ملتزم بجباية ضريبة الخراج وشراء الأراضي من بيت المال من قبل التجار وقادة الجيش، و شكل كبار الموظفين ورجال الدين العمود الفقري لما سمي فيما بعد بالبورجوازية العقارية ، والمصادرة والضرائب كانتا وسيلة البيروقراطية الشرقية لتركيد قوى الانتاج ، ومنع تعاقب الطبقات على السلطة وألغت المصادرة الملكية الخاصة وتطوير القوى المنتجة وقطعت الطريق على البورجوازية الوسطى والحضرية والتي كان بالامكان ان تكون رائدة البورجوازية الحديثة كما حصل في أوربا ..
وإذا كانت الطبقة تتحدد بدخلها، فدخل الطبقة السائدة العربية لم يكن الريع الاقطاعي بل الضرائب البيروقراطية ، التي أطاحت بفائض انتاج الفلاجين ورؤوس أموال صغار تجار المدن وكبارهم، ونمط الانتاج الذي عرفه العالم العربي هو الرأسمالية البيروقراطية الراكدة ،وهذا الركود كان سببا لعدم ولادة بورجوازية حديثة ، تطلق العنان للصراع الطبقي بين طبقتين أساسيتين، و تثورالقوى المنتجة وتنتقل الى مرحلة جديدة على غرار ما حصل في الغرب عندما تحول الرأسمال التجاري الى صناعي ضمن نمط انتاج ديناميكي، وكان الصراع الطبقي محركا للتاريخ في نمط انتاج مؤهل ذاتيا للانتقال من بنية الى بنية ، ولذلك يمكن القول بان بيروقراطية البلدان العربية المتخلفة والرثة ،لا تمت بصلة الى البيروقراطية التي اقترنت باسم مفكر الرأسمالية والبورجوازية ماكس فيبر، والذي جعل من هذا المفهوم محور اجتماعيات السياسة وعلامة دالة على اكتمال الدولة العصرية ، وكانت هذه البيروقراطية الوسيلة الوحيدة لتحويل العمل الجماعي الى عمل اجتماعي منظم ، والموظفين في دولة حديثة وديمقراطية يتحولون الى جيش مدني ، وفق ما رأه ماكس فيبر الذي ربط ربطا محكما بين الدولة الحديثة والبيروقراطية العقلانية والجيش ، وليس مستغربا انحيازه الى الدولة البسماركية والبونابرتية وهذه الأخيرة عممت سياسة كولبير والتي تمثل الشكل الأعلى من الميركنتيلة ، وكانت هذه المرحلة تتطلب وجود جيش وتعليم عال واقتصاد رأسمالي موحد للسوق وتوجيهي..
لا ضير من القول من أن الدولة في البنية الاجتماعية الرأسمالية الغربية ، كانت عامل توحيد على عكس الدولة التابعة والتي ثبتت اركانها القوى الاستعمارية في البنى العربية والتي كانت عاملا لتفكيك المجتمع ، والتي حافظت على الأشكال الانتاجية الما قبل رأسمالية وعلى البنى المجتمعية الماقبل دولتية كالبنى الاهلية والعصبوية والبدوية والعشائرية القبلية، وهذا يفسر من منظور المادية التاريخية التداخل بين الفوارق الاجتماعية الطبقية والطائفية ، وعندما يكون التقسيم الاجتماعي للعمل متخلفا وغير متطور ، فإن التمايز الاجتماعي يأخذ شكل تمايز في المراتب والمهن ، وحتى ماركس استخدم مفهوم الطبقة بالمعنى الواسع الذي يشمل الطرق والطوائف في المجتمعات ما قبل الرأسمالية ، وحتى مفهوم الأعيان لا يخرج عن كونه تعبيرا عن أحد جماعات المكانة بالمعنى الفيبري..
في الوطن العربي لا توجد حداثة ولا عقلانية ولا بيروقراطية بالمعنى الفيبري في ظل وجود الأشكال الانتاجية والاجتماعية المفوتة تاريخيا، ولذلك ينظر الى التوظيف كهبة لا كخدمة والعلاقات بين الموظفين هي علاقات إحسان وولاء، وبهذا الحالة تتحول البيروقراطية الى وسيلة خاضعة للتقاليد المتعارف عليها ، والى مجموعة أمناء على مصالح الخزينة العمومية وتستخدم لصالح القمع ، وهذه البيروقراطية متآتية من إرث الدولة السلطانية الاستبدادية المملوكية ، حيث كان الجيش هو يد السلطان يحارب به في الداخل أكثر مما يواجه في الخارج والضريبة هي غرامة تقدر بما يحتاج اليه الأمير لا لما تحتاجه الرعية، فتؤخذ غصبا من التاجر والصانع والموظف، والادارة هي في الغالب هم أفراد يؤتمنون على مال السلطان، والتوظيفات ليست تعويضات على خدمات انما هي رمزللانقياد والطاعة ، وبهذا المعنى كانت الدولة تعني الغلبة والقهروالاستغلال والتصرف الحر في بيت المال ، والخزينة والبيروقراطية والجيش هم ملك للسلطان، ولو كانت الدولة كلها عدلا وعمرانا لكانت دولة عقلية وفق تعبير ابن خلدون وهي ليست دولة الاسلام ايضا ، بل هي دولة الطبقة المسيطرة البيروقراطية الراكدة وما يظهر بانه قائم بالشرع ، هو قائم بالنظام الاجتماعي التاريخي كنظام استبداد سلطاني، وسبق أيضا لابن خلدون أن خصص القسم الأعظم من مقدمته لبحث ظاهرة العجز الكامن في بنية المجتمعات العربية ، عن بناء دولة مستقرة مستمرة وطرح على نفسه سؤالا اساسيا، لماذا في المجتمعات العربية الاسيوية الكولونيالية ينغلق الزمن على الزمن ضمن حركة دائرية ،ما ان تنهض دولة ملتحمة بعصبية ، حتى تتصدع وتتعفن وتحل محلها عصبية أخرى ، وكأنها محكومة بلعبة دائرية لا فكاك منها ، أي استبدال عصبية بعصبية لها الطابع نفسه وما كان بمقدور ابن خلدون أن يفسر هذا السكون والركود ، لأنه يفتقد للأداة النظرية الضرورية لتفسيره لأن التاريخ السياسي للشرق مقفلا ولا يحتوي على تطورديناميكي تصاعدي، بسبب ثبات نمط انتاجه ولذلك يتم حتى اليوم استبدال طبقة بطبقة مهيمنة ، تختلف شكل ايديولوجيتها ضمن ثبات التناقض الاساسي ، وهذا ما أطلق عليه مهدي عامل بالاستبدال الطبقي والانتقال من بنية الى بنية يكون رهنا بالنفي التناقضي وليس التماثل الهيغلي ،الذي يحافظ على الركود ويساهم بتأبيده والتعايش معه على عكس النفي التناقضي الذي يهدم القديم ويبني الجديد ....