القمع السياسي ومراقبة النشطاء من حوارنا -كأن الذكاء الاصطناعي هو الكأس المقدسة-، مع الرفيق رزكار عقراوي* – بؤرة ضوء – الحلقة الأولى


فاطمة الفلاحي
2025 / 5 / 15 - 14:10     


الذكاء الاصطناعي له العديد من التطبيقات. وفي بعض الأحيان، يمكن أن تضاهي أو حتى تتفوق على معايير الإنسان في زاوية صغيرة من زوايا العلوم والفنون. ولكن مضاهاة إبداع الإنسان في "العموم" مسألة مختلفة تمامًا. أصبح الذكاء الاصطناعي العام بعيدًا أكثر من أي وقت مضى.

الذكاء الاصطناعي؛ تكنولوجيًا استخدام الكومبيوتر لإنجاز مهام مفيدة بتوظيف طُرق غير التي يستخدمها العقل تماما.
واستخدم في الإجابة عن أسئلة تتعلق بالإنسان وغيره من الكائنات الحية.

يوفِّر الذكاء الاصطناعي عددًا لا يُحصى من الأدوات التكنولوجية، أضِف إلى ذلك تأثيره العميق في علوم الحياة.لكن :

1. ماذا لو يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض غير أخلاقية، مثل القمع السياسي، أو مراقبة النشطاء، كيف للآخر أن يحد من تدخلاته، أما يستدعي الأمر وضع أطر أخلاقية لاستخدامه؟

يجيبنا مشكورًا:
نعم، لا شك أن الذكاء الاصطناعي قد تحوّل في السياق الرأسمالي العالمي إلى أداة هيمنة وتقييد وقمع سياسي بشكل ناعم، وتظهر آثاره على المدى الطويل، إذ تتجاوز وظيفته التقنية أو الإنتاجية لتصبح امتدادًا لآليات السيطرة الطبقية، وإعادة إنتاج الاستغلال بأكثر أشكاله تطورًا وتحكمًا. إن استخدامه في مراقبة الناشطين والناشطات، تتبّع تحركاتهم، أو حتى التنبؤ بنشاطاتهم للتضييق عليهم حتى قبل أن تبدأ، وخاصة في الدول الدكتاتورية، يمثل شكلًا جديدًا من "الاعتقال الرقمي" و"الاغتيال الرقمي"، كما أشرنا في الكتاب. هذا ليس انحرافًا عرضيًا، بل نتيجة منطقية لتطوره ضمن بنية الرأسمالية الرقمية، التي لا ترى في التكنولوجيا سوى وسيلة لتعظيم الأرباح وترسيخ السلطة السياسية والأيديولوجية.
فالذكاء الاصطناعي اليوم، كما يُطوَّر ويُدار من قبل الطغم التكنولوجية الاحتكارية والدول الكبرى، لم يعد أداة حيادية أو مستقلة، بل هو انعكاس دقيق لعلاقات الإنتاج السائدة، خاضع بشكل كبير لمنطق السوق والهيمنة الطبقية. يتم توجيه هذه التقنيات لا فقط لرصد السلوك العام، بل لبناء نماذج تنبؤية للسلوك السياسي والفكري للأفراد والمجموعات، تُستخدم لإضعاف وتشويه، وحتى إسكات، أي إمكانية لمقاومة جذرية أو فعل تحرري. وقد دخلنا بالفعل، ومنذ سنوات، في مرحلة من الرقابة الخوارزمية الشاملة، التي لم تعد تكتفي بتصفية المنشورات أو قمع الرأي السياسي، بل باتت تُفعِّل أنماطًا من "الرقابة الذاتية الطوعية" و"الإحباط الرقمي"، بهدف تعطيل الحوافز الداخلية للمقاومة، وتحويل الفاعلين والفاعلات إلى أفراد معزولين ومنكفئين رقميًا، فاقدين للأمل في إمكانية التغيير.
لكن مواجهة هذا الاستخدام القمعي لا تبدأ من "نصيحة أخلاقية" لمطوّري الذكاء الاصطناعي، بل من إدراك أن الصراع حول التكنولوجيا هو جزء من الصراع الطبقي نفسه. فكما كانت المعامل والمصانع والمزارع في الماضي ساحات مركزية للهيمنة والاستغلال، أصبح الفضاء الرقمي اليوم، والخوارزميات بشكل خاص، موقعًا مركزيًا لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية وتطبيعها. "الآخر" الذي تشيرين إليه، سواء كان فردًا أو مجتمعًا، لا يستطيع أن يحدّ من تدخلات الذكاء الاصطناعي الاستغلالية، إلا من خلال بدائل تقدمية للذكاء الاصطناعي وفرض منظومات رقابية شعبية، ديمقراطية، وجماعية على التقنيات الحالية. ويجب أن تكون هذه الرقابة جزءًا من مشروع سياسي بديل، لا يُراهن على "نوايا حسنة"، بل يناضل لتحرير التكنولوجيا من يد الشركات الاحتكارية والدول القمعية، ونقلها إلى فضاءات جماعية تُدار لصالح عموم المجتمع.
ولا يكفي في هذا السياق الحديث عن "إصلاحات تقنية" داخل الشركات أو اعتماد "مدونات سلوك" شكلية. ما لم تُطرح مسألة الملكية السياسية للتكنولوجيا، وما لم نطرح من يملك هذه الأنظمة؟ من يصممها؟ من يتحكم فيها؟ فإن أي "أطر أخلاقية" ستظل مجرد قشرة تجميلية لآلة قمع ناعمة وتدريجية، لكنها فاعلة وفتّاكة.
نعم، نحتاج إلى أطر أخلاقية، لكن الأخلاق المجردة في ظل السوق الرأسمالية تتحول بسرعة إلى "ديكور" تُخفي خلفه آليات السيطرة. يتم الحديث عن "الذكاء الاصطناعي الأخلاقي"، بينما يُستخدم فعليًا للتضييق على الحركات اليسارية، مراقبة الصحفيين والصحفيات، وتثبيت الاستبداد تحت شعار "الاستقرار المجتمعي" و"مواجهة العنف والإرهاب"، وغيرها. لذلك، الأطر الأخلاقية التي نطالب بها لا يجب أن تكون منفصلة عن قوانين دولية ومحلية تفرض الشفافية والعدالة في استخدام البيانات والخوارزميات، وتحظر استخدامها في المراقبة والقمع السياسي والسيطرة الرقمية وتعظيم الأرباح. بل يجب أن تكون نابعة من رؤية تقدمية، تُعيد تعريف الذكاء الاصطناعي كأداة مجتمعية لخدمة البشرية، ويُخضع لبنى ديمقراطية تشاركية ذات ملكية جماعية، بدلًا من أن يُترك في يد نخب لا يُحاسبها أحد، ولا تخضع لأي سلطة جماهيرية، وحتى دولية مثل الأمم المتحدة.
إن غياب هذه القوانين ليس صدفة، بل نتيجة مباشرة لهيمنة الشركات الاحتكارية والدول الكبرى على صناعة القرار العالمي. من هنا، فإن النضال من أجل تشريع القوانين لا ينفصل عن النضال الطبقي نفسه، بل هو أحد أدواته. الهدف ليس فقط منع وتقييد الاستخدام السيئ، بل فرض بنية قانونية تجعل أي استخدام للذكاء الاصطناعي خاضعًا لمواثيق حقوق الإنسان الدولية، والرقابة الشعبية المجتمعية. هذه ليست معركة قانونية فقط، بل معركة تحررية، تستهدف قلب المنظومة الرقمية الحالية، وإعادة تشكيلها بما يخدم الجماهير.
إن الأمر لا يتعلق فقط بما يفعله الذكاء الاصطناعي، بل بمن يتحكم فيه ولمصلحة من. وبدون تغيير جذري في بنية الملكية والتصميم والتوزيع لهذه الأدوات، فإن "الأخلاق الرقمية" ستظل حبرًا على ورق في كتيبات الشركات التي تمارس السيطرة والقمع والتوجيه الرقمي بكل برود، ثم تنشر تقاريرها السنوية عن "الاستدامة والعدالة". المواجهة الحقيقية مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي الرأسمالية لا يمكن أن تكون تقنية أو أخلاقية فقط، بل يجب أن تكون سياسية بامتياز، جزءًا لا يتجزأ من معركة تحرر طبقي واسعة تعيد التوازن بين البشر والتكنولوجيا، وتضع الإنسان في قلب القرار الرقمي.


*******************************
تعريفات:
• الرقابة الرقمية: آليات خفية ومباشرة تُستخدم فيها الخوارزميات لحذف أو حجب أو تقليص انتشار المحتوى اليساري والمعارض، بهدف ضبط الفضاء الرقمي وفق مصالح الرأسمالية والأنظمة القمعية.

• الاعتقال الرقمي: تقييد مؤقت أو دائم لحسابات الناشطين والناشطات ومنصاتهم، دون محاكمات أو شفافية، كأداة لقمع الأصوات المناهضة وتهميش الأفكار والحركات التقدمية.

• الاغتيال الرقمي: محو كامل للبصمة الرقمية لشخص أو مجموعة عبر إغلاق الحسابات، حجب المواقع، وتدمير البنية الرقمية للمعارضين بهدف عزلهم عن الجماهير وإقصائهم من المجال العام.

• الإحباط الرقمي: استراتيجية خوارزمية منظمة تهدف لنشر الشعور بالعجز واليأس بين الناشطين والناشطات، وتضخيم فشل التجارب اليسارية لتكريس استحالة تغيير النظام الرأسمالي.

• الرقابة الذاتية الطوعية: حالة يخضع فيها الأفراد لرقابة داخلية ناتجة عن الخوف من الحجب أو العقاب الرقمي، فيبدأون بتعديل خطابهم بأنفسهم لتجنّب الاصطدام مع الخوارزميات أو السلطة.


----------------
• يساري مستقل، مهتم باليسار والثورة التكنولوجية، ويعمل كخبير في تطوير الانظمة والحوكمة الإلكترونية.
• كتاب: الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة، يمكن الحصول عليه مجانًا عبر الرابط:
https://rezgar.com/books/i.asp?bid=3



لنا معكم لقاء آخر في الحلقة الثانية مع الرفيق رزكار عقراوي