من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 23 والأخيرة
عبدالرحيم قروي
2025 / 5 / 14 - 09:25
الحلقة الثالثة والعشرون والأخيرة
ينبغي لنا أن نفهم من تعبير "الأذكياء" في الميدان التنظيمي - كما أشرت غير مرة - الثوريين المحترفين فقط، سواء ظهروا من بين الطلاب أو العمال، فلا فرق. وها أنا ذا أجزم بأنه: 1) لا يمكن أن توجد أية حركة ثورية وطيدة بدون منظمة من القادة ثابتة تحافظ على الاستمرارية؛ 2) بمقدار ما يتسع الجمهور الذي ينهض بصورة عفوية إلى النضال والذي يؤلف قاعدة الحركة ويساهم فيها، تشتد الحاجة إلى مثل هذه المنظمة وينبغي لها أن تكون أوطد (وإلا سهل بنفس المقدار على كل ديماغوجي التغرير بفئات الجمهور المتأخرة)؛ 3) ينبغي لهذه المنظمة أن تتألف بصورة رئيسية من أناس يجعلون من النشاط الثوري مهنة لهم؛ 4) بمقدار ما نضيق، في بلاد يسودها الاستبداد، قوام أعضاء هذه المنظمة بحيث لا يشترك فيها غير الأشخاص الذين جعلوا من النشاط الثوري مهنة لهم والذين تدربوا تدريبا مهنيا على فن النضال ضد الشرطة السياسية، تزداد صعوبة "اصطياد" هذه المنظمة و5) يزداد عدد أبناء الطبقة العاملة والطبقات الإجتماعية الأخرى الذين تتاح لهم إمكانية الإشتراك في الحركة والعمل النشيط فيها. إني أطلب إلى أصحابنا "الإقتصاديين" والإرهابيين و"الإقتصاديين-الإرهابيين" أن يدحضوا هذه الصيغ التي لن أتناول منها الآن غير الصيغتين الأخيرتين. إن مسألة ما إذا كان القبض على "دستة من الأذكياء" أسهل من القبض على "مئة من الحمقى" تؤول إلى المسألة التي حللناها: هل المنظمة الجماهيرية ممكنة مع ضرورة المراعاة الدقيقة لقواعد العمل السري؟ لن نستطيع بحال من الأحوال أن نرفع منظمة واسعة إلى ذلك المستوى من السرية الذي لا يمكن بدونه حتى الحديث عن نضال ضد الحكومة له صفة الثبات والاستمرارية. إن تركيز جميع الوظائف السرية في أيدي أقل عدد ممكن من الثوريين المحترفين لا يعني قط أن هؤلاء "سيفكرون عوضا عن الجميع" وأن الجموع لن تساهم في الحركة بنشاط. بل بالعكس، فإن الجموع ستبرز هؤلاء الثوريين المحترفين بعدد يتزايد باستمرار، لأن الجموع ستعرف عندئذ أنه لا يكفي أن يجتمع عدد من الطلاب والعمال القائمين بالنضال الإقتصادي ويشكلوا "اللجنة"، إنما ينبغي للجموع أن تنفق السنين على تنشئة ثوريين محترفين من صلبها، وسينصرف "تفكير"ها إلى هذه التنشئة بالذات، لا إلى العمل الحرفي وحده. إن تركيز الوظائف السرية للمنظمة لا يعني إطلاقا تركيز جميع وظائف الحركة. فاشتراك أوسع الجماهير اشتراكا نشيطا في المنشورات السرية لا يقل من جراء تركيز "دستة" من الثوريين المحترفين للوظائف السرية في هذا العمل، بل، بالعكس، يزداد أضعافا مضاعفة. ليس من طريق غير هذا الطريق يوصلنا إلى جعل أمر قراءة المنشورات السرية والمساهمة في تحريرها وحتى أمر توزيعها إلى حد معين تكف تقريبا عن أن تكون أمرا سريا، لأن الشرطة لا تلبث أن تفهم أن من الحماقة والمستحيل اللجوء إلى الإجراءات القضائية والإدارية بصدد كل نسخة من ألوف النسخ الموزعة. ولا ينطبق ذلك على الصحافة وحسب، إنما ينطبق أيضا على جميع وظائف الحركة بما في ذلك المظاهرات. فاشتراك الجمهور في المظاهرة أنشط اشتراك وأوسعه، عدا أنه لا يصاب بأي ضرر، يستفيد جدا إذا ما قامت "دستة" من الثوريين المجربين والمدربين تدريبا مهنيا لا يقل عن تدريب الشرطة عندنا بتركيز جميع النواحي السرية في العمل - تحضير المناشير، وضع مشروع تقريبي، تعيين هيئة قيادة لكل حي من أحياء المدينة، ولكل منطقة من مناطق المعامل ولكل مدرسة الخ. (أعلم أنهم سيعترضون علي بأن نظراتي "غير ديموقراطية"، ولكني سأجيب بالتفصيل على هذا الاعتراض الأخرق تماما فيما يأتي من البحث). إن تركيز منظمة الثوريين لأكثر الوظائف سرية لا يضعف، إنما يزيد سعة ومضمون نشاط مجموعة كبرى من المنظمات الأخرى المعدة للجمهور الواسع والتي تخلو بسبب ذلك لأقصى حد ممكن من الشكل التنظيمي والسرية: كنقابات العمال، وحلقات العمال للدراسة ولقراءة المنشورات السرية، والحلقات الاشتراكية وكذلك الحلقات الديموقراطية بين جميع فئات السكان الأخرى، الخ.، الخ.. إن هذه الحلقات والنقابات والمنظمات ضرورية في كل مكان، وبأكبر عدد ممكن وبوظائف متنوعة ما أمكن؛ ولكن من خطل الرأي ومن الضرر أن نخلط بينها وبين منظمة الثوريين وأن نطمس الحد الفاصل بين هذه المنظمات ومنظمة الثوريين وأن نطفئ في الجمهور نور الإدراك الذي سبق له وخبا إلى حد لا يصدق، الإدراك بأن الحركة الجماهيرية تحتاج "لخدمتها" إلى أناس يكرسون أنفسهم خصيصا وكليا للنشاط الاشتراكي-الديموقراطي، وأنه ينبغي لهؤلاء الناس أن يربوا من أنفسهم بصبر ومثابرة ثوريين محترفين. أجل لقد خبا هذا الإدراك لدرجة يصعب تصورها. والخطيئة الرئيسية التي اقترفناها في ميدان التنظيم هي كوننا، بعملنا الحرفي، قد أسأنا إلى سمعة الثوري في روسيا. ثوري ضيق الأفق، ضعيف ومتردد في القضايا النظرية، يجعل من عفوية الجماهير مبرراً لرخاوته، أشبه بسكرتير تريديونيون منه إلى خطيب شعبي، غير كفء لعرض برنامج واسع جريء ينتزع احترام الخصوم أنفسهم، قليل الخبرة وأخرق في الفن الذي اتخذه لنفسه مهنة - النضال ضد الشرطة السياسية،- هل هذا هو الثوري من فضلكم! لا، إن هذا حرفي يستحق الشفقة. أرجو ألا يعتب علي أحد من المشتغلين في الميدان العملي لهذه الكلمة الخشنة، إذ أني أنسبها لنفسي قبل كل شيء ما دمنا نتحدث عن قلة الاستعداد. لقد عملت في حلقة(91) وضعت نصب عينيها أهدافا واسعة شاملة، وقد شعرنا جميعنا نحن أعضاء هذه الحلقة بالألم يحز في قلوبنا إذ أدركنا أننا حرفيون في ظرف تاريخي يمكننا أن نقول فيه مع بعض التغيير لعبارة من العبارات الشائعة: أعطونا منظمة من الثوريين، نقلب روسيا رأسا على عقب! وبمقدار ما وجب علي منذ ذلك الحين أن أتذكر شعور الخجل الممض الذي كان يحز في نفسي آنذاك، كانت تمتلئ نفسي بالمرارة ضد أولئك الاشتراكيين-الديموقراطيين المزيفين الذين "يهينون لقب الثوري" بدعايتهم، والذين لا يفهمون أن واجبنا ليس الدفاع عن الهبوط بالثوري إلى مستوى الحرفي، بل رفع الحرفيين إلى مستوى الثوريين.
انتهى مؤلف "ما العمل " للقائد المعلم فلاديمير إليتش لينين