فنلندا الأخرى: البروليتاريا المنسيّة في دولة الرفاه


أحمد الجوهري
2025 / 5 / 14 - 04:49     

المقدمة

تُعدُّ أفلام أكي كاوريسماكي الفنلندي (Aki Kaurismäki) – وبالتحديد ثلاثيته الشهيرة: Shadows in Paradise (1986)، Ariel (1988)، وThe Match Factory Girl (1990) – شهادة سينمائية على الواقع المُعاش للطبقة العاملة في دول الرفاهة الإسكندنافية. عبر هذه الثلاثية، يكسر كاوريسماكي الضباب الذي يكتنف السرد الرسمي عن “النموذج الإسكندنافي”، ويكشف عن بنية اجتماعية واقتصادية لا تقل استغلالًا وقسوة عن تلك الموجودة في المجتمعات الرأسمالية الأخرى.

في هذه القراءة، سنوظف إطارًا نظريًّا مزدوجًا يجمع المنهجية الماركسية الجدلية في تحليل العمل المأجور، والاغتراب، والصراع الطبقي، مع النقد الثقافي التشومسكي الذي يكشف عن آليات السلطة الأيديولوجية والإعلامية في إنتاج خطاب يخدم مصالح النخبة ويُخفي فهم الطبقة العاملة لنفسها. بهذا المزيج نهدف إلى إظهار كيف أن كاوريسماكي لا يروي قصة مجرد فقراء، بل يفضح شبكة العلاقات التي تجعل من هؤلاء ضحايا للهيمنة الثقافية والاقتصادية معًا.

الإطار النظري: ماركسية جدلية ونقد تشومسكي

العمل المأجور والاغتراب
يستمدُّ أحد أهم المفاهيم الماركسية، وهو “الاغتراب” (alienation)، من تشريح ماركس للعلاقة بين العامل ونتاج عمله. في النظام الرأسمالي، يتحول العمل المأجور إلى مجرد سلعة، وينفصل العامل عن ملكية منتَجه، فيفقد الإحساس بذاته وبإنسانيته.

الصراع الطبقي والبنية الفوقية
تُشكّل البنية الأساسية (الاقتصاد) وجوهر الصراع الطبقي الأرضية التي تنبثق منها البنى الفوقية (الثقافة، الإعلام، القانون). الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا ليس نزاعًا أخلاقيًا فحسب، بل صراع على السيطرة على وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة والسلطة.

الدولة كأداة قمعية نسقية
تابعًا للماركسية، لا تُعدّ الدولة حيادية، بل هي جهاز قمعي تولّده الطبقة الحاكمة لحماية مصالحها. في دول الرفاه الكلاسيكية، تظهر هذه القمعية بوجه مموّه: خدمات اجتماعية مقابل تراجع في وعي الطبقة العاملة وقدرتها على التحرك الجماعي.

النقد الثقافي التشومسكي
يرى نعوم تشومسكي أنّ الإعلام والثقافة لا يخدمان الحقيقة بقدر ما يعيدان إنتاج بنية السلطة، عبر ما سمّاه “الفلترة” (propaganda model). تنتج هذه الآليات سرديةً رسميةً تُخفي استغلال الطبقات العاملة وتنموذجها كأرقامٍ اقتصاديةٍ لا كأفرادٍ أصحاب حقوقٍ ووعيٍ. في قراءة تشومسكية للأفلام، نبحث عن هذه “آليات التجميل” وطرق تفكيكها السينمائي.

قراءة الاشتراكية التشومسكية في الثلاثية
1. Shadows in Paradise (ظلال في الجنة)

ملخص وملاحظات المستخدم
يتابع الفيلم عاملَ نظافة يُدعى نيكاندر يرعى حياته وحيدةً بعد فقدان زوجته. يتنقل باستمرار بين وظائف مؤقتة، تعكس معاناته في العثور على عملٍ ثابت. حين يدخل هو وصديقته Ilona إلى مطعمٍ ريفيٍّ مُترفٍ، يُمنعانه من الدخول بسبب مظهرهما “الفقير”، بينما تسمح لهما الإدارة بدخول البطلة Ilona فقط لأنها برفقة رجلٍ غنيّ.

تحليل ماركسي جدلي
يمثل تحرك نيكاندر بين مواقع العمل انعكاسًا لأزمة النظام الرأسمالي في توظيف العمال بشكل دائم؛ فالعمل هنا سلعة باردة تناسب حاجة السوق، لا رغبات الإنسان. وبينما يفتقر العامل إلى أمنٍ وظيفيٍ، تزداد درجة اغترابه عن منتَجه ومجتمعه.

نقد تشومسكي لخطاب الرفاه
تشتغل الكاميرا على إظهار التناقض بين واجهة “الدولة الرفاهية” – الممثلة في ديكور المطعم الفخم – وبين واقع الشارع الصامت تحتها. يستخدم كاوريسماكي الصمت كآلية تؤكد “حقيقة المعاناة” بعيدًا عن أي تعليقٍ صوتيٍ أو إدانةٍ صاخبة، فيعري قصة “الرفاه الموزع” الذي لا يشمل من هم في أسفل السلم الاجتماعي.

2. Ariel (أرييل)

ملخص وملاحظات المستخدم
يحكي الفيلم قصة رجل يعمل في محطة وقود، يفقد وظيفته، ثم يُحكم عليه بالسجن بعد محاولته ردّ حقّه المسلوب. يلتقي امرأة في المستشفى، وتبدأ علاقتهما بصورةٍ مفاجئةٍ، ثم يهربان إلى المكسيك على متن سفينةٍ حمراء اللون اسمها Ariel.

تحليل ماركسي جدلي
يمثل السجن في الفيلم جهازًا قمعيًا ناجمًا عن الدولة وقوانينها التي تحمي مصالح رأس المال. فالشرطة والمحاكم لا يحميان الفقراء، وإنما يؤدّون دور “زجاج الطوارئ” الذي يسد ثغرات النظام ويوجّه العامل–الضحية إلى مزيدٍ من العزلة. هذا الانعكاس الجدلي بين قمع الدولة وغياب الحماية هو جوهر النظرة الماركسية.

نقد تشومسكي لتمثيل الهامش
العلاقات الإنسانية في Ariel تفتقد الوعي الطبقي؛ سريعة، متعجلة، بلا تطورٍ حقيقي. هذا يعكس “ثقافة الصدمات” الحديثة التي لا تعطي مساحةً للعمق. أما اختيار السفينة الحمراء – Ariel – فيحمل إشارةً أيقونيةً إلى الثورة الاشتراكية، لكنه في ذات الوقت يُرى كحلمٍ هاربٍ من العالم الرأسمالي، لا كتحوّلٍ سياسيٍ جماعي.

3. The Match Factory Girl (فتاة مصنع الكبريت)

ملخص وملاحظات المستخدم
البطلة Iris فتاة تعمل في مصنعٍ للكبريت، وتُجبر على الإنفاق على زوج أمها وعائلته، بالإضافة إلى العمل المنزلي غير المأجور. تشهد جفافًا عاطفيًا، ثم تعاني إذلالًا جسيمًا عندما تُستخدم جنسيًا من قبل رجلٍ غنيٍّ، ثم تُجبر على الإجهاض. تنفجر أخيرًا في انتقامٍ دمويٍّ تجاهه وتجاه أسرتها.

تحليل ماركسي نسوي جدلي
يضرب الفيلم مثالاً صارخًا على استغلال العمالة النسائية مزدوجة الأبعاد: أولًا كيد عاملة في المصنع، ثانيًا كيد عاملةٍ في المنزل. يسلّط الضوء على العمل المنزلي غير المأجور كجزءٍ من “الإنتاج” غير المعترف به في الإحصائيات الرسمية، ويعكس كيف تحوّل النساء إلى أدوات استهلاكية ورعاية بلا أي اعتبارٍ اقتصادي.

نقد تشومسكي للثقافة الصامتة
صمت Iris في معظم الفيلم يشير إلى “الفلترة” التي يصفها تشومسكي، حيث لا صوت للضحايا في خطاب السلطة. حين تنتقم، فهي لا ترتكب “جريمة” فرديةً فحسب، بل تصعّد أزمة الصمت التي فرضها عليها النظام الثقافي والاقتصادي؛ فتصبح صوت الصرخة المضادة.

الخاتمة: المقاومة الصامتة والأمل المخنوق

إذا ما جمعنا قراءاتنا، نرى ثلاثية كاوريسماكي كدليلٍ على أن “دولة الرفاه” ليست واحةً عدلٍ من دون ثمن، بل نظامٌ يمارس القمع بأدواتٍ خفيةٍ – الصمت، التمثيل الثقافي، التغاضي الإعلامي – قد تكون أخطر من القمع العلني.

فضح الزيف الإنساني والاجتماعي: تكشف الثلاثية أن الرفاه مجتمعًا لا يلغيه الفقر، بل يستبطن أشكالًا أكثر رقةً من القمع.

كاوريسماكي والمقاومة الصامتة: لا يُرفع أي شعارٍ اشتراكيٍّ صريح، لكنه يقاوم عبر لغة المصير المشترك، والصمت الذي يفرض على المشاهد مواجهة الحقيقة بلا هروب.

الأمل والاستسلام:

في Shadows in Paradise، ينتهي الأمل بوصول Ilona ونيكاندر إلى هلسنكي، وكأنهما يبدآن صفحةً جديدةً.

في Ariel، يتحول الأمل في الهرب إلى تجربةٍ ثنائيةٍ هشةٍ بين حبٍّ مباغتٍ ونظامٍ لا يرحم.

في The Match Factory Girl، يتحوّل الأمل إلى انتقامٍ قاتمٍ، ما يطرح السؤال: هل انتقام الفرد الموجع هو أملٌ بديلٌ أم صرخةٌ أخيرةٌ في وجه الاستسلام النهائي؟

إن هذه الثلاثية، بكثافتها وسيلسلتها الزمنية بين أواسط الثمانينيات وبدايات التسعينيات، تقدّم وثيقةً فنيةً ونظريةً حول الطبقة العاملة الهامشية في أزهى دول “الرفاه الاجتماعي”، وتؤكد أنه لا خلاص حقيقي دون وعيٍ جماعيٍّ وفعلٍ احتجاجيٍّ حقيقيٍّ يتجاوز صمت الشاشة إلى صرخات الشارع.

الكلمة الأخيرة:
أكي كاوريسماكي لا يكتب بياناتٍ سياسية، بل يقدم مذكرات صمتٍ متحديةٍ، يفتك الصوت منها حين يقف المشاهد وجهاً لوجه مع وجع مأجورين انتزعت منهم القيمة الإنسانيّة وأُلبستهم ثوبَ الإخفاء. ما بين الصمت والصرخة تنبثق مقاومةٌ تشبه الهواء: لا تراها، لكنك تتنفسها.