الاشتراكية لا تمر عبر الدولة: نقد تحرري لمقال من الدولة إلى التنظيم الطبقي للدكتور علي طبله


أحمد الجوهري
2025 / 5 / 12 - 04:48     

مقدمة

يأتي هذا النص ردًا على مقال الدكتور علي طبلة المعنون "من الدولة إلى التنظيم الطبقي: في الرد على أطروحات أحمد الجوهري من منظور ماركسي-لينيني تجديدي"، والذي حاول فيه الدفاع عن مفهوم الدولة الانتقالية والحزب الطليعي والتنظيم المركزي، باعتبارها ضرورات مرحلية لا غنى عنها في مشروع الاشتراكية.

في هذا الرد، أتناول كل فرضية وردت في مقاله، من منظور تحرري جذري، قائم على القطيعة التامة مع الدولة والحزب الهرمي، انطلاقًا من رؤية ماركسية-تشومسكية، لا سلطوية، نقابية، ومجالسية، ترى أن الاشتراكية لا تُبنى بأدوات السيطرة، ولا تُنجز عبر أجهزة تنوب عن الجماهير، بل تُخلق من الأسفل، أفقيًا، وبلا وسطاء.

سأفكك الطروحات الأساسية في مقاله، وأُظهر التناقضات النظرية التي تتضمنها، مستعينًا في ذلك بمواقف قادة ومفكرين اشتراكيين كبار مثل ليون تروتسكي، روزا لوكسمبورغ، أنطوني بانيكوك، ونعوم تشومسكي، الذين عبّروا، كلٌ بطريقته، عن رفضهم لتحويل الاشتراكية إلى جهاز حكم مركزي يُقصي الجماهير باسمها.

ما أقدمه هنا ليس مجرد رد، بل دعوة إلى مراجعة جذرية لمسار ما يُسمى "الاشتراكية الواقعية"، ومحاولة لاستعادة المعنى الحقيقي للاشتراكية كتحرر فعلي من كل أشكال القهر، لا إعادة تدويرها بلون أحمر.
مقال دكتور علي طبله:
https://www.ahewar.net/debat/show.art.asp?aid=868438




١. الدولة: من "أداة مرحلية" إلى قيد أبدي

يرى الكاتب أن الدولة البرجوازية لا تُهزم إلا بدولة بروليتارية جديدة، مؤقتة. وهنا يكمن التناقض الأول: كيف يمكن أن نحرر أنفسنا عبر أداة جوهرها القمع الطبقي؟ لا يمكن لجهاز يقوم على الاحتكار المشروع للعنف أن يكون مقدمة لتحرر.

ماركس وإنجلز، في الحرب الأهلية في فرنسا، أشادا بكومونة باريس لأنها حطّمت الدولة التقليدية. لم تدعُ الكومونة لبناء جهاز قمعي جديد، بل ابتكرت شكلًا أفقيًا للسلطة عبر التفويض القاعدي وإمكانية سحب المندوبين. القول إن الكومونة سقطت لغياب جهاز قمع، لا لغياب وعي أممي أو دعم طبقي عالمي، هو قلب للواقع الثوري.

الدولة، أية دولة، تسعى لتكريس نفسها، لا لذوبانها. وما يُسمّى بـ"المرحلية" هو تعبير إيديولوجي عن مشروع بيروقراطي مؤجل. الدولة لا تنتج سوى دولة.

٢. الحزب الثوري: بين تسويق الطليعة وتجميل القيادة

الكاتب يدافع عن "الحزب الطليعي الديمقراطي المنضبط"، ويعتبر الانحراف البيروقراطي حادثًا عارضًا لا بنيويًا. لكنه بذلك يُعيد إنتاج جوهر المشكلة: أن وجود حزب هرمـي يفرز بالضرورة نخبـة تمتلك سلطة فوق القواعد، حتى لو ادّعت التمثيل والرقابة.

التاريخ السوفييتي، وتجارب الصين وكوبا وحتى التجارب "التقدمية" في أمريكا اللاتينية، تثبت أن الحزب ينزلق دومًا نحو تمثيل ذاته بدلًا من تمثيل الطبقة. أين "الرقابة القاعدية" عندما يكون الحزب هو ذاته من يصوغ آليات الرقابة؟ هذه ليست ديمقراطية، بل وهم ديمقراطي.

الحزب الذي "ينظم" الجماهير و"يثقفها" و"يؤطرها" هو بالضرورة يضع نفسه فوقها. نحن لا نريد من ينظمنا، بل أن نُنظّم أنفسنا، أفقيًا، كشبكات كفاحية، لا كأجهزة طليعية متعالية.




٣. الاشتراكية الواقعية: بين التبرير والتجاوز (مع تروتسكي، روزا، بانيكوك، وتشومسكي)

يقول الكاتب إن التجارب الاشتراكية لم تكن رأسمالية دولة، بل مشاريع تحرر انحرفت. لكننا لا نحتاج للبحث خارج الفكر الماركسي كي نرى خطأ هذا الطرح، فحتى من داخل المعسكر البلشفي ظهرت أصوات أدركت مبكرًا أن الدولة "الاشتراكية" تولّد طبقة حاكمة جديدة بقناع ثوري.

ليون تروتسكي، في كتابه الثورة المغدورة، وصف الاتحاد السوفييتي بأنه دولة عمالية متحللة تتجه نحو رأسمالية دولة تحكمها بيروقراطية طفيلية استولت على الثورة. قال إن البيروقراطية ليست مجرد انحراف، بل تشكّل طبقي جديد يتطفل على العمل، ويُعيد إنتاج السيطرة عبر جهاز حزبي مغلق.

روزا لوكسمبورغ، في نقدها اللاذع للبلشفية، رفضت بوضوح دكتاتورية الحزب الواحد، وقالت: "بدون حرية لأولئك الذين يفكرون بشكل مختلف، لا توجد حرية." ورأت أن مصادرة المبادرة الشعبية من قبل الحزب يؤدي حتميًا إلى تحويل الثورة إلى جهاز فوقي يُخنق فيه صوت الجماهير.

أما أنطوني بانيكوك، مفكر المجالس العمالية ومن أبرز ممثلي الشيوعية المجالسية، فقد كشف أن السيطرة من فوق، سواء باسم الدولة أو الحزب، تُعيد إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية ضمن شكل جديد. بانيكوك رأى أن الدولة بطبيعتها معادية للديمقراطية الحقيقية، وأن التحرر لا يتم عبر جهاز مركزي، بل من خلال المجالس العمالية الذاتية والإدارة المباشرة.

وأخيرًا، نعوم تشومسكي أطلق رصاصة الرحمة:

"إذا كانت هناك علاقة بين الاتحاد السوفييتي والاشتراكية، فهي علاقة التناقض."
(If there is a relation, it is the relation of contradiction.)

في مقاله “The Soviet --union-- Versus Socialism”، أظهر أن ما سُمّي اشتراكية ما هو إلا "استغلال لأوهام الاشتراكية من قبل كهنة الدولة" الذين أمسكوا السلطة وسحقوا أي شكل فعلي من إدارة العمال للإنتاج. وأكد أن:

"الاشتراكية الحقيقية هي سيطرة المنتجين على وسائل الإنتاج، لا استبدال الرأسمالي بجهاز بيروقراطي مركزي."
(Socialism means the liberation of working people from exploitation... not by a new --dir--ecting and governing class substituting itself for the bourgeoisie, but by the workers themselves being master over production.)

كما قال إن البلاشفة:

"هدموا كل أشكال الحكم الذاتي العمالي، منذ اللحظة الأولى، واستبدلوها بسيطرة مركزية مطلقة تحت مسمى الاشتراكية."

لقد دُمِّرت السوفييتات، ومُحيت لجان المصانع، واستُبدلت كلها بـ"مجلس الاقتصاد الأعلى" الخاضع للحزب، ليُنقل الحكم من الجماهير إلى نخبة بيروقراطية تستخدم لغة ماركس لتُعيد إنتاج ما حذّر منه ماركس.




٤. عن منهجية المقال: تناقضات صريحة

يبدأ الكاتب بالدعوة إلى منهجية مادية تحليلية، ثم يسقط في أحكام أخلاقية ضد “الطوباوية” دون تعريف مادي لما يسميه "البدائل الواقعية".

يُدافع عن التنظيم الطبقي، ثم يُعيد بنائه فوق الدولة والحزب، أي على نفس الأسس التي ننتقدها.

يرفض الإدانة الأخلاقية للتجارب، لكنه لا يقدم تفكيكًا فعليًا لميكانيزمات الاستبداد داخلها.

يتحدث عن رقابة قاعدية، لكنه يربطها بحزب هو من يحدد من يراقب، وكيف، ومتى.

٥. نحو تحرير حقيقي من الأسفل

ما نطرحه ليس نفياً للفعل المنظم، بل دعوة لبنائه أفقيًا: مجالس عمالية، نقابات ثورية، تعاونيات، شبكات أممية مناضلة، كلها تقوم على التفويض لا التمثيل، الرقابة لا الطليعة، التعدد لا الهيمنة، القرار الجماعي لا المركزية.

لسنا ضد التنظيم، بل ضد من يحتكر معناه. ولسنا ضد التجريب، بل ضد إعادة تدوير الكارثة تحت عناوين "تجديدية".

الخاتمة: الاشتراكية لا تعني إعادة احتلال القلعة، بل هدمها

ما يسعى إليه د. علي طبلة هو محاولة لإعادة تزيين جدار الدولة والحزب بألوان أقل قسوة. أما نحن، فإننا نسعى إلى اقتلاع الجدار من أساسه.
التاريخ لا يعيد نفسه، وإن أعاده فلن يكون تراجيديا بل مهزلة، كما قال ماركس.

فلنقلها بوضوح:
لا اشتراكية مع دولة. لا تحرر مع حزب طليعي. لا كرامة مع بيروقراطية.
الاشتراكية ليست ما يأتي بعد الثورة، بل هي شكل الثورة نفسها.