نقد جذري لمقال -نحو تجديد ماركسي-لينيني يتجاوز المأزق اللاسلطوي- - رد على الباحث علي طبله


أحمد الجوهري
2025 / 5 / 11 - 02:23     

مقدمة واجبة: عن احترام الأشخاص وقطيعة الأفكار
قبل الدخول في صلب هذا النقد، أود أن أوضح بجلاء أن ما أقدمه هنا لا يمثّل بأي حال من الأحوال هجومًا شخصيًا على كاتب المقال الأصلي، الذي أقدّره كمفكر شيوعي وأديب يحاول بإخلاص أن يجد مخرجًا من مأزق التكلّس النظري الذي تعاني منه الحركات التقدمية. إن محاولته، مهما اختلفتُ معها جذريًا، تنبع من حرص حقيقي على إحياء المشروع الاشتراكي، وهذا أمر يُحترم ويُثمّن.

لكن، ورغم هذا التقدير الإنساني والفكري، فإن ما أطرحه هنا هو نقدٌ جذريٌ لفكرة المقال ذاتها، ولمجمل التصور الذي يقترحه، بما يحمله من إعادة إنتاج لمفاهيم الدولة الانتقالية والحزب الطليعي تحت مسمّيات جديدة.

إن الموقف الذي أتخذه ليس اختلافًا تجميليًا، بل قطيعة ضرورية مع التراث السياسي الذي يرى في الدولة والحزب أدوات خلاص، في حين أثبتت التجربة التاريخية أنها كانت سلاسل جديدة بأسماء حمراء.

نقدي موجّه للبنية النظرية، لا لشخص كاتبها. وأملي أن يُفهم هذا النص في سياقه: مساهمة صادقة من داخل الحركة اليسارية، للبحث عن تحرر لا يُختطف، واشتراكية لا تُفرغ من معناها.


تمهيد: عن وهم التجديد دون قطيعة
أول ما يلفت الانتباه في المقال هو الادعاء بـ"تجديد ماركسي-لينيني"، بينما يظل الكاتب متشبثًا بكل الآليات السلطوية القديمة، بدءًا من مفهوم الدولة الانتقالية، مرورًا بالحزب الطليعي، وصولًا إلى التبرير البيروقراطي للفشل. لكن لا تجديد بلا قطيعة، ولا قطيعة دون هدم الأسس التي كرّست المأساة.

ما يُسمّى "إعادة ابتكار" الحزب أو "الاحتفاظ بديكتاتورية البروليتاريا" ما هو إلا إعادة تدوير لبنية استبدادية فشلت تاريخيًا، وانتهت دومًا إلى سحق الإنسان باسم الطبقة. الاشتراكية لا يمكن أن تُبنى على قمع مؤجل، ولا على دولة تُبرر نفسها بأنها "مرحلية". إننا لا نريد استبدال البرجوازي بالبيروقراطي، ولا نؤمن بثورة تنتهي إلى عبودية جديدة.

١. الدولة: خرافة "الضرورة الثورية"
الكاتب يستشهد بـ"نقد برنامج غوتا" و"الحرب الأهلية في فرنسا" ليبرر بناء دولة جديدة، تُسمى هذه المرة "ديكتاتورية البروليتاريا". لكن دعونا نكن صريحين: كل "ديكتاتورية" تنتهي ديكتاتورية فعلية. وكل دولة، مهما ادّعت تمثيل الطبقة العاملة، تتحول إلى أداة قمع طبقي جديد، تفرض باسمها شرعية لم يعد لها محل في زمن التنظيمات الأفقية والوعي الجماهيري.

ما جرى في كومونة باريس، وما حدث لاحقًا في إسبانيا الثورية، ليس دليلًا على فشل غياب الدولة، بل على وحشية الرأسمالية عند افتضاح أمرها. الرد الحقيقي على قمع الثورة ليس تقليد قمعها، بل بناء ما يُضادها جذريًا: سلطة مضادة للدولة، لا دولة مضادة للدولة.

٢. الحزب الطليعي: هرطقة الانضباط وخرافة القيادة
الكاتب يحاول التمييز بين "الحزب الطليعي" اللينيني الأصلي وبين التحول البيروقراطي الذي حدث لاحقًا. لكن أي تحليل مادي حقيقي يجب أن يرى التماثل، لا القطيعة. بنية الحزب الهرمية، المُنضبطة، القابلة للانغلاق، هي التي أدت إلى البيروقراطية. ليست انحرافًا، بل نتيجة منطقية للبنية نفسها.

ثم من يعطي "الطليعة" هذا الحق الميتافيزيقي في تمثيل "الطبقة"؟ من قال إن الجماهير بحاجة إلى من "يهيّئها"؟ إن القول بأن الجماهير تحتاج إلى قيادة فوقية كي تنضج، هو إعادة إنتاج لخطاب الوصاية البرجوازي نفسه، لكن بأدبيات حمراء.

كل حزب طليعي يحمل في جوهره احتقارًا للناس، وارتباكًا أمام إمكانياتهم. نحن لا نحتاج لحزب يربينا، بل نحتاج لمجتمع نربيه ونصوغه أفقيًا، ذاتيًا، جماعيًا.

٣. رأسمالية الدولة: لماذا نسمي الأشياء بغير أسمائها؟
الكاتب يحاول تخفيف جريمة "رأسمالية الدولة" بوصفها "تحولات ناقصة ومعقدة". لكنه يتهرب من الحقيقة: أن كل ما سُمّي "اشتراكية واقعية" لم يكن إلا نظامًا رأسماليًا تحت إدارة حزب. ملكية الدولة ليست اشتراكية، بل تحويل لرأس المال إلى احتكار بيروقراطي جماعي.

التعليم المجاني والصحة والبنية التحتية لا تُعد اشتراكية إن لم تكن نابعة من سلطة الشعب المباشرة. كم من دولة رأسمالية توفر هذه الخدمات؟ هل صارت "فنلندا" اشتراكية لأنها تمول المدارس؟

ما يجعل المشروع اشتراكيًا ليس السياسات الاجتماعية بل البنية الطبقية للسلطة، ومن يحكم من، وكيف. وأي نظام لا يضع أدوات الحكم في يد العمال أنفسهم، مباشرة، هو في جوهره نظام رأسمالي مقنع.

٤. التنظيم القاعدي والأممية الشبكية: تضاد لا وحدة
الكاتب يتحدث عن "التنظيم القاعدي" بوصفه جزءًا من مشروعه، لكنه يعيده بسرعة إلى قفص مركزي اسمه "الحزب الديمقراطي المنضبط". ما الفائدة من بناء القاعدة، إن كانت ستخضع في النهاية لقيادة فوقية ولو تحت اسم "رقابة شعبية"؟

ثم إن فكرة "الأممية الشبكية" المطروحة في النص، رغم جمالها اللفظي، تُفرّغ من مضمونها حين تُربط مجددًا بالأحزاب والنقابات تحت مسمّى "تنسيق طبقي". الأممية الحقيقية لا تحتاج لإدارة مركزية مرنة، بل لحركة من الأسفل، متعددة، غير خاضعة لأي جهاز فوقي، ولا لأي تنميط.

٥. التناقضات الجوهرية في النص
يدّعي الكاتب تجديد الماركسية اللينينية، ثم يعود لتمجيد نفس الأدوات التي فشلت تاريخيًا.

يرفض الطوباوية، لكنه يتمسك بأسطورة دولة انتقالية لم تعرف البشرية سوى وجهها القمعي.

يحتفي بالتنظيم القاعدي، ثم يربطه بجهاز فوقي هو الحزب.

ينتقد رأسمالية الدولة لفظًا، لكنه يدافع عنها جوهرًا بوصفها "مرحلة ناقصة".

يريد ديمقراطية، لكنه يصر على "الانضباط" و"القيادة" و"المركزية الشبكية" تحت مسميات ناعمة.

خاتمة: لا تجديد دون جذرية
إن ما يُطرحه في المقال لا يمثل تجديدًا بل تجميلًا لماضٍ ميت. نحن لا نريد لافتة جديدة على جهاز قديم. نحن نرفض الدولة كأداة للتحرر، ونرفض الحزب كبديل عن الوعي. نؤمن أن الطبقة العاملة قادرة، بذاتها، على تنظيم نفسها، وبناء سلطتها الخاصة، أفقيًا، ديمقراطيًا، دون وصاية.

التحرر لا يُدار من أعلى، ولا يُؤجل بمرحلة انتقالية، ولا يُنفذ بانضباط حزبي. التحرر يُمارس هنا، والآن، ومن الأسفل.

تحيا التنظيمات القاعدية الثورية.
تسقط كل دولة، وكل حزب هرمي.
ولتنهض سلطة العمال من الرماد، لا من القصر.