-بين المدنية والطبقية- حوارات مهمة، اطروحات ر. د. حسين علوان حسين


علي طبله
2025 / 5 / 2 - 00:47     

مفهوم جداً ان تثير مقالة: بين المدنية والطبقية: قراءة ماركسية-لينينية في طروحات الحزب الشيوعي العراقي، التعليقات الهادفة لإغناء الموضوعة، وهي كلها مشروعة.
واليكم رداً على تعليق الرفيق د. حسين علوان حسين، وأرفق في نهاية المقالة تعليقه إكمالا للفائدة

الرفيق العزيز، تحية رفاقية صادقة،

أحيّي فيك الروح الرفاقية العالية والحرص على مناقشة قضايا نظرية وتنظيمية حساسة بهذا القدر من الجدية. في ردّك المهم أثرت مسألة جوهرية تتعلق بشعار “الدولة المدنية” ومدى علاقته بالنضال الطبقي، وهو موضوع يستحق التمحيص العميق وفق المنهج الماركسي الجدلي.

اسمح لي أن أوضح ما أطرحه بدقة: الاعتراض الذي تضمّنه نص الكراسة لا يتعلق برفض المطالب الديمقراطية ولا الانتقاص من أهمية النضال ضد الطائفية والمليشيات المسلحة التي خنقت الحراك الشعبي. بالعكس تمامًا، النضال الديمقراطي جزء لا يتجزأ من برنامج الطبقة العاملة. لكن الاعتراض مركّز على الانزلاق الفكري والسياسي الذي يحدث عندما يُرفع شعار الدولة المدنية كحل سحري، أو كغاية قائمة بذاتها، دون أن يُربَط هذا الشعار ببرنامج انتقالي واضح يهدف في النهاية إلى كسر جهاز الدولة الطبقي القائم.

لنُدقق نظريًا:
ماركس وإنجلز، في كتاب “البيان الشيوعي” وفي “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”، أرسيا مبدأً حاسمًا مفاده أن الدولة هي أداة سيطرة طبقية، وليست جهازًا محايدًا. إنجلز كتب بوضوح:
“الدولة لم توجد منذ الأزل. لقد نشأت عندما انقسم المجتمع إلى طبقات، وعندما بات من الضروري أن تُقهر طبقة بواسطة طبقة أخرى.”

وهنا مربط الفرس: الدولة البرجوازية، سواء لبست عباءة “مدنية” أو ظهرت بثوب “مليشياوي”، تظل جهازًا لقمع الطبقات الكادحة. صحيح أن أشكال هذا القمع تختلف: في الدول ذات البنى المؤسسية المستقرة يظهر القمع في صورة قانونية/مؤسساتية (قمع الإضرابات، تقويض النقابات، الاعتقال “القانوني”)، أما في الدول التابعة والمأزومة مثل العراق، فيتخذ القمع طابعًا هجينا عبر المليشيات المنفلتة وأجهزة الدولة الأمنية المختلطة.

وهنا أقتبس من لينين في “الدولة والثورة”:
“إن الدولة هي آلة قمع طبقة لأخرى، ولا يمكن للدولة البرجوازية أن تكون غير ذلك حتى عندما ترتدي قناع الديمقراطية البرجوازية.”
وهذا يعني أن حتى الدولة المدنية – بالمعنى البرجوازي – ليست هدفًا يمكن التعويل عليه كحل جذري، بل هي ساحة نضال مؤقتة ومرحلية، سرعان ما تُغلق نوافذها الديمقراطية حينما يتجاوز النضال حده الإصلاحي ويمسّ المصالح الجوهرية للطبقة الحاكمة.

صحيح ما أشرتَ إليه بأن انتفاضة تشرين وما سبقها من تحركات في بغداد وكردستان وغيرهما تم سحقها باستخدام المليشيات وقوى الأمن الداخلي. ولكن السؤال الجوهري الماركسي هو:
هل المشكلة هنا تتعلق فقط بأن هذه القوى كانت “مليشياوية” وليست “مدنية”؟ أم أن المشكلة أعمق، وتكمن في أن جهاز الدولة نفسه – أيًا كان شكله – هو أداة لقمع أي حركة جماهيرية تهدد مصالح الطبقة الحاكمة؟
تجارب القمع في فرنسا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة تثبت أن حتى أعتى “الدول المدنية” لا تتردد في استخدام أقسى أشكال القمع الطبقي عندما تهددها البروليتاريا.

في السياق العراقي، علينا أن ننتبه إلى مسألة خطيرة: مشروع “الدولة المدنية” المطروح بعد 2003 جاء من رحم هندسة الاحتلال الأمريكي الذي أعاد إنتاج الدولة وفق قاعدة برجوازية طائفية تابعة، رغم محاولات تغليفها بعبارات “مدنية” و”ديمقراطية”. من هنا، فإن الحديث عن الدولة المدنية في العراق ليس حديثًا عن خيار نقيّ مقابل المليشيات فقط، بل هو جزء من إعادة ترتيب موازين القوى داخل الطبقة الحاكمة التابعة.

ما أريد قوله هنا هو أن خطورة شعار الدولة المدنية تكمن ليس في مضمونه الديمقراطي (الذي نتفق على ضرورته كمساحة نضالية)، بل في تحوله إلى سقف سياسي يطمس التناقض الطبقي الرئيسي بين الكادحين وبين جهاز الدولة الرأسمالي التابع. ماركس حذرنا من ذلك حين قال عن الثورات الديمقراطية:
“الثورة الاجتماعية لا يمكن أن تأخذ قوالب الثورة السياسية؛ بل يجب أن تدمرها.”
(الصراع الطبقي في فرنسا 1848-1850)

وأضيف هنا مسألة مركزية: البديل الجذري الذي نطرحه كماركسيين ليس هو الدولة المدنية بحد ذاتها، بل دكتاتورية البروليتاريا كمرحلة انتقالية نحو مجتمع اشتراكي. الدولة المدنية، إن وجدت فعليًا، قد تفتح هوامش نضالية أوسع (مثل حرية التنظيم والتظاهر) لكننا نُدرك جيدًا أنها، عاجلًا أم آجلًا، ستعيد إنتاج القمع الطبقي حين تتعرض مصالح البرجوازية للخطر.

لهذا، ما نؤكده هو:
• نعم للنضال الديمقراطي ضد الطائفية والمليشيات ومن أجل الحريات السياسية والنقابية.
• نعم لاستثمار أي هامش ديمقراطي لتمكين التنظيم الطبقي للجماهير.
• لكن لا لوهم أن “الدولة المدنية” هي هدف استراتيجي كافٍ، أو أنها قادرة على تحقيق التغيير الجذري الذي تنشده الطبقة العاملة.

إن خطورة اختزال النضال الطبقي إلى شعار “الدولة المدنية” دون ربطه ببرنامج انتقالي طبقي واضح، أنه قد يقود إلى تذويب الحركة العمالية في مشاريع إصلاحية برجوازية محدودة الأفق. وهذا هو ما حذرت منه الكراسة بوضوح: ضرورة أن يبقى الحزب الشيوعي في صُلب النضال الطبقي، لا أن يتحول إلى مجرد جزء من توازنات “العملية السياسية” الفاسدة التي أعادت إنتاج منظومة التبعية والنهب.

في الختام، نحن لا نعادي شعار الدولة المدنية كجزء من تكتيك نضالي أوسع، بل نحذر من تحوله إلى أفق استراتيجي يغيب عنه جوهر الصراع الطبقي. المطلوب هو برنامج ثوري جدلي يربط النضال الديمقراطي بالنضال الطبقي، ويستثمر أي مساحة نضالية ديمقراطية لبناء التنظيم الطبقي المستقل للعمال والفلاحين والكادحين، حتى اللحظة التي يصبح فيها ممكنًا كسر جهاز الدولة الطبقي وإقامة دولة العمال.

رفيقي العزيز، أكرر تقديري لحوارك المثمر، وأتطلع لمزيد من النقاشات العميقة التي تساهم في صقل وعينا الجماعي وتدفعنا جميعًا خطوة نحو إعادة بناء حزبنا كقوة طبقية ثورية حقيقية.

رفاقيًا دائمًا،
د. علي طبله
————————————-

واليكم تعليق الرفيق د. حسين علوان حسين:
الرفيق العزيز الاستاذ الدكتور علي طبلة المحترم
تحية عطرة
وضعكم الطبقية والمدنية على طرفي نقيض بحيث تنفي الطبقية المدنية وبالعكس في علاقة طرد متبادل هو طرح غير علمي. شعار الدولة المدنية طرحه حشع ليس لإلغاء النضال الطبقي بل ضد التوجهات الواضحة لبناء دولة المليشيات من طرف الأحزاب السياسية الطائفية والقومية المتطرفة بغية فرض الأمر الواقع الذي يتحكم فيه السلاح المنفلت بمصائر الشعب وليس مبدأ سيادة القانون. هذا الشعار صحيح لكون الدولة المدنية تتيح مجالاً مهما لحل المشكلات الاجتماعية بتفعيل دور كل القوى الوطنية في الدفاع عن مصالح الناس المظلومين ضد الدولة والسوق وفي تأكيد الإرادة الديمقراطية للتأثير على الدولة. هنا شعار الدولة المدنية هو التمكين للحراك الوطني وللنضال الطبقي، وليس مثلما تفضلتم. إسال نفسك: كيف تم وأد ثورة تشرين، وقبلها عشرات الاعتصامات المطلبية في كردستان والانبار وبغداد وكل مدن وسط وجنوب العراق منذ عام 2008 لليوم؟ الجواب هو بتسليط المليشيات وقوى الأمن الداخلي لضربها بالأساليب العنفية خارج إطار القانون الذي يكفل حق الاحتجاج للمواطن، مما يعني اعادة ولادة الدولة البوليسية .
———————————

ملاحظة ختامية

إن الكتابة مسؤولية فكرية وأخلاقية تتطلب من الكاتب أن يتحرى الصدق، والموضوعية، والالتزام بقضايا العدالة والحرية. كما أن النقد الموجه لأي نص ينبغي أن يلتزم بضوابط الحوار الفكري المسؤول، فيُناقش الأفكار لا الأشخاص، ويبتعد عن الشخصنة والمناكفات التي تفسد الحوار وتضعف قيمته العلمية.

كل نص يُكتب، وكل نقد يُقدّم، يعكس مستوى وعي صاحبه، وأخلاقيته، وانحيازه.
لذلك، نهيب بالقراء الكرام الالتزام بثقافة الحوار الهادئ والبناء، لما فيه خدمة الحقيقة، وإنضاج النقاش، وإثراء الفضاء الفكري بقيم التعددية، والاحترام المتبادل، والسعي المشترك نحو مستقبل أفضل.