تاريخ المعتزلة وتدليس اليسار العربي


خلف علي الخلف
2025 / 4 / 20 - 15:01     

لطالما أُعلِيَ من شأن فكر المعتزلة في أوساط اليسار العربي، ووُصفوا بأنهم "أبناء العقلانية والحرية"، حتى خُيّل إلينا أن هذا الفكر، لو استمر، لبلغنا المريخ قبل كل الأمم وأنشأنا مستعمرات هناك. هكذا رُسمت الصورة المثالية من اليسار الذي أوقعنا في فخ التدليس الذي مارسه طوال عقود.

النواح المستمر على المعتزلة أوحى بأنهم فرقة مضطهدة، كان في مقدورها أن تجعل البطاطا تنبت في الهواء، والمعزات تلد ثلاثًا. كان من المقرر وفق القراءة اليسارية أن تقودنا عقلانيتهم إلى مجتمع متحرر، مبدع، ومتساوٍ في الحقوق. لكن الحقائق حينما نُبصرها لا تكون صادمة فحسب، بل بشعة. فقد تبين لي أن المعتزلة حكموا أكثر من نصف قرن في قلب الدولة العباسية، ولم يكونوا مجرد فرقة مسحوقة، وحين وصلوا السلطة، مارسوا فكرهم بمنتهى السلطوية.

لا شك أن فكرهم تضمن عناصر عقلانية، غير أن من روجه في العالم العربي كان اليسار الذي ارتبط بالديكتاتوريات أو خلقها، ثم سلّم رايته إلى "التنويريين الجدد" ممن واصلوا تقديس المعتزلة والديكتاتوريات بنفس العمى. لقد كانت الممارسة الفعلية لذلك الفكر نقيضًا لشعاراته، ما دفعني إلى إعادة النظر في كل ما قيل عنهم. توقفت مطولا أمام التشابه الظاهر بين وهم الاشتراكية ووهم المعتزلة؛ كلاهما حمل وعودًا بالمساواة والعدالة والحرية، ثم انقلب عند التطبيق إلى أداة قمع. بل تكاد مساراتهما في العالم العربي تتطابق في استعمال الفكر كغطاء للتسلط والوحشية والقمع.

التدليس اليساري العربي

منذ نشأة الثقافة العربية الحديثة، ابتُلينا بقراءة يسارية تجعل من المعتزلة مشعل المستقبل. وُصف الفكر المعتزلي بأنه القادر على بناء مجتمعات متقدمة علميًا وأخلاقيًا، ولو ساد الفكر المعتزلي، لبلغنا ذرى الحضارة. هذه المثالية لم تكن مبنية على جهل، بل على تجاهل متعمد من قبل اليسار الذي أخفى الجوانب القمعية لتجربتهم، لأنه لم ير فيها انتهاكا لكرامة الإنسان بل ممارسة عادية لفرض الفكر "التنويري العقلاني" كما فعل اليسار خلال حكم السلطات التي خلقها. حين قرأت تاريخهم بعيون مفتوحة، صُدمت. المعتزلة الذين ظنناهم رموزًا للتنوير والعقلانية، مارسوا القمع ضد خصومهم الفكريين بكل وضوح وبشاعة. ادّعوا العقلانية وتجاهلوا الحرية الفكرية، فأصبح فكرهم سلاحًا ضد كل من يخالفهم، تمامًا كما فعلت الأنظمة التي خلقها أو ارتبط بها اليسار الذي مجّدهم.

المعتزلة: الفكر القمعي والممارسات الوحشية

إن محنة خلق القرآن وتعذيب خصوم الفكر المعتزلي، مورس على مدار أكثر من نصف قرن، ومحنة أحمد بن حنبل ليست إلا قمة جبل الجليد الظاهرة في تاريخهم القمعي. على الرغم من إطلاعي على ممارساتهم الوحشية في السلطة فإن أكثر ما هزّني كان إرسالهم للجان تفتيش إلى مكان تبادل أسرى المسلمين مع الروم، وسؤال كل أسير عن "خلق القرآن". من قال إنه مخلوق، عاد؛ ومن رفض، تُرك في الأسر. هذه ممارسة لا تنتمي للعقلانية بل لمحاكم التفتيش الوحشية. إنها لحظة سقوط أخلاقي وفكري لمن يدّعون التسامح ويدعون له.

العقلانية والعدالة كأدوات للقهر

الفكر المعتزلي، كالفكر الاشتراكي، بدا مثاليًا على الورق، لكنه سقط عند أول اختبار للسلطة. كلاهما قال بوعد المساواة وانتهى بالقمع. تحوّلت الشعارات التنويرية إلى أدوات سلطوية، تُمارس الإقصاء والبطش. لقد تحولت الاشتراكية إلى ديكتاتورية في كل التجارب العربية، تمامًا كما تحولت "عقلانية" المعتزلة إلى قهر فكري. كلاهما لم يصمد أمام غواية السلطة، وكلاهما أوقعنا في فخ المثالية الفكرية الورقية المخادعة. ما لم ننتبه له هو أن الفكر حين يتحول إلى أداة سلطة، يتخلى عن جوهره. وأن المثالية التي لا تعترف بممارساتها القمعية، لا تختلف عن الاستبداد الذي تدّعي مواجهته.