نقد ذاتي للخطاب اليساري في العراق: الحزب الشيوعي العراقي نموذجاً - الجزء الثالث والرابع


علي طبله
2025 / 4 / 19 - 18:13     

الجزء الثالث: أزمة التحالفات، واستحقاق اليسار الجديد



7. مأزق التحالفات: بين الواقعية السياسية والانتحار الرمزي

من أبرز المحطات التي كشفت عمق أزمة الخطاب والممارسة لدى الحزب الشيوعي العراقي كانت مشاركته في تحالف “سائرون” مع التيار الصدري عام 2018. قد تبدو هذه الخطوة في ظاهرها محاولة واقعية لكسر الطوق الطائفي والدخول في لعبة التغيير من داخل النظام. لكنّها شكّلت في الجوهر تناقضًا صارخًا مع المبادئ التي طالما تبناها الحزب.

بينما رفع الحزب شعارات الدولة المدنية، وجد نفسه متحالفًا مع تيار يتبنى خطابًا دينيًا وشعبويًا، سبق أن هاجم التظاهرات المدنية. وُصف التحالف بأنه “زواج مصلحة”⁴، لكن في الواقع، كان الحزب هو الخاسر الأكبر: خسر مصداقيته لدى جزء من قاعدته، ولم يحقق مكاسب تنظيمية ملموسة.

يرى الباحث فالح عبد الجبار أن “التيارات اليسارية تفقد بوصلتها عندما تعتقد أن التحالف مع قوى دينية هو تعبير عن براغماتية ثورية، بينما هو في الغالب تنازل مفهومي”⁵.

المشكلة لم تكن في مبدأ التحالف بحد ذاته، بل في غياب الشفافية الفكرية التي تشرح للجمهور لماذا تم هذا التحالف، وما هي خطوطه الحمراء، وما هي استراتيجية الخروج منه. وقد ظهر ذلك لاحقًا في ارتباك الحزب بعد انسحاب التيار الصدري من البرلمان، وترك الحزب وحيدًا في المشهد.



8. يسار ما بعد الحزب؟ سؤال المستقبل

إذا كانت تجربة الحزب الشيوعي العراقي قد وصلت إلى حدود قصوى من الانسداد، فإن ذلك لا يعني نهاية المشروع اليساري في العراق. بل ربما يعني ضرورة التفكير في يسار جديد، يتجاوز الأشكال التقليدية للتنظيم والحركة.

هذا اليسار الجديد لا يبدأ من الشعارات، بل من القاعدة. من الواقع اليومي للفئات الشعبية. من البطالة، السكن غير اللائق، الفساد، التعليم المتردي، وتدهور الصحة العامة.

قد لا يكون لهذا اليسار حزب واضح المعالم، لكنه يظهر في الحراكات الاجتماعية، في انتفاضة تشرين، في الحركات النسوية، البيئية، والنقابية المستقلة. إنه يسار بلا أيديولوجيا مسبقة، لكنه يخلق أيديولوجيته من التجربة المباشرة.

يكتب المفكر ديفيد هارفي:

“اليسار لا ينهار لأنه يُقهر، بل لأنه يفشل في تجديد نفسه، في فهم أن الرأسمالية تغير جلدها باستمرار، ويجب على من يقاومها أن يتغير أيضًا.“⁶

من هنا، يجب أن يتحول سؤال “ما العمل؟” من مجرد تكتيك سياسي إلى نقد جذري للذات اليسارية العراقية: أين أخطأنا؟ ماذا لم نفهم؟ ومن نخاطب اليوم؟ وعلى أي أرضية؟



يتبع في الجزء الرابع والأخير: نحو يسار نقدي متجدد – مهام وملامح المرحلة القادمة.



الهوامش
4. عباس كاظم، “تحالف سائرون: براغماتية سياسية أم انتحار فكري؟”، المرصد العراقي للديمقراطية، 2019.
5. فالح عبد الجبار، العمامة واليسار: الدين والسياسة في العراق الحديث، بيروت: دار الجمل، 2010.
6. David Harvey, Seventeen Contradictions and the End of Capitalism, Oxford University Press, 2014.
—————————————————————————————————————————

نقد ذاتي للخطاب اليساري في العراق: الحزب الشيوعي العراقي نموذجاً

د. علي طبله

الجزء الرابع: نحو يسار نقدي متجدد – المهام وملامح المرحلة القادمة



9. من أزمة الخطاب إلى إعادة التأسيس

ما يشهده اليسار العراقي ليس مجرد تراجع سياسي أو تنظيمي، بل أزمة في الرؤية. فالخطاب الطبقي الكلاسيكي، وإن كان يمتلك قوة تحليلية، لم يعد كافيًا وحده لفهم واقع يتداخل فيه الاقتصادي مع الطائفي، والهوياتي مع السلطوي.

إن إعادة تأسيس اليسار لا تعني فقط تحديث مفرداته، بل تفكيك بنيته القديمة التي ظلت، في كثير من الأحيان، أسيرة قوالب أيديولوجية جامدة لا ترى الواقع إلا من خلال مناظير الحرب الباردة.

كما أن إعادة التأسيس تستدعي نقدًا جذريًا لشكل التنظيم الحزبي نفسه. فالحزب الشيوعي العراقي ظلّ يعمل ضمن نموذج مركزي تقليدي، هرمي، في وقت تتجه فيه أغلب الحركات الاجتماعية المعاصرة نحو الأفقية، والمشاركة القاعدية، واللامركزية.

كما بيّنت انتفاضة تشرين، فإن الفعل الثوري لم يعد ينتظر توجيهًا حزبيًا، بل ينبثق من مبادرات جماعية شبابية ترفض الأطر القديمة، وتُنتج خطابًا يخلط بين السياسي والاجتماعي والوجودي.

وكما كتب الناشط في تشرين، مهند جواد:

“ما نحتاجه ليس حزبًا يملك برنامجًا، بل صوتًا يفهمنا، وينطلق من معاناتنا، لا من شعارات محفوظة.“⁷



10. يسار متعدد، راديكالي، متصالح مع زمنه

إذا أردنا تخيّل شكل هذا اليسار الجديد، يمكن أن نرسم له المعالم التالية:
1. يسار يعترف بتعدد أشكال الاضطهاد
لا يختزل الظلم في الطبقة وحدها، بل يربط بين الاقتصاد والمساواة بين المرأة والرجل، بين القومية والطائفة، بين الريف والمدينة.
2. يسار نقدي لا عقائدي
لا ينطلق من نصوص مقدّسة، بل من تحليل الواقع، من الاستماع للناس، من التجريب، والخطأ، والتراجع عند الحاجة. ينبع من فهم واعي للماركسية اللينينية، كونها ليست نصوص جامدة.
3. يسار من القاعدة لا من النخبة
لا يصدر بيانات من المركز، بل ينخرط في النقابات، في المدارس، في الأحياء، في ساحات الاحتجاج، في البيئات المهمشة.
4. يسار يخوض معارك يومية
معركة ضد خصخصة التعليم، ضد نهب الأراضي، ضد تردي الخدمات، ضد القمع، وضد الأمل الزائف القادم من الخطاب الطائفي أو القومي.

هذا لا يعني إنكار دور الأحزاب القائمة، بل دعوة إلى أن تعيد هذه الأحزاب فهم مهمتها، وتتخلى عن إرث الزعامة والبيروقراطية، وتنخرط في صراعات جديدة بلغة جديدة.
وهذا كله يمكن تحقيقه عندما تثمر جهود توحيد الحركة الشيوعية والعمالية والماركسية في حزب واحد.



خاتمة: هل هناك أمل؟

نعم، بشرط واحد: أن يملك اليسار العراقي، وهنا نعني كل الشيوعيين والعماليين والماركسيين، الشجاعة ليقوموا بأكثر المهام ثورية في هذه اللحظة – نقد الذات.

من دون هذا النقد، ستبقى الأحزاب تدور في نفس الدوائر، وستُنتج انتفاضات بلا نتائج، وغضبًا بلا بدائل.

اليسار لا يُبنى بالشعارات، بل بالعمل الملموس، بالتحليل الواقعي، وبالانفتاح على الأجيال الجديدة.
كما قال أنطونيو غرامشي:

“علينا أن نعيش تناقضات الحاضر بشجاعة، فنقاوم تشاؤم العقل بتفاؤل الإرادة.“⁸

وهذا ما يحتاجه اليسار العراقي اليوم: إرادة لا تخاف من هدم ذاتها، لتبني من ركامها شيئًا جديدًا.



الهوامش
7. مهند جواد، “من ساحات تشرين إلى سؤال التنظيم”، دفاتر الاحتجاج العراقي، 2021.
8. Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, International Publishers, 1971.



قائمة المصادر
• عبد الجبار، فالح. العمامة واليسار: الدين والسياسة في العراق الحديث. بيروت: دار الجمل، 2010.
• كاظم، عباس. “تحالف سائرون: براغماتية سياسية أم انتحار فكري؟”، المرصد العراقي للديمقراطية، 2019.
• Harvey, David. Seventeen Contradictions and the End of Capitalism. Oxford University Press, 2014.
• جواد، مهند. “من ساحات تشرين إلى سؤال التنظيم”. دفاتر الاحتجاج العراقي. بغداد، 2021.
• Gramsci, Antonio. Selections from the Prison Notebooks. International Publishers, 1971.