من رجال الدين إلى دين الرجال: كيف تحوّل النص المقدّس إلى أداة للهيمنة؟
محمد فرحات
2025 / 3 / 23 - 08:03
.. ودائمًا كانت الآفة في دعوى تملّك الدين من قِبَل فئة تُطلق على نفسها اسم "رجال الدين"، ثم احتكارهم لتأويل النصّ المقدّس، ثم مجاورة التأويل البشري للنصّ المقدّس، ثم تداخله مع "فهم" النصّ، ثم انسحاب النصّ المقدّس تدريجيًا لصالح التأويل البشري، ثم التماهي بين التأويل البشري لرجال الدين والنصّ المقدّس، ثم انسحاق النصّ تحت مطارق التأويل البشري.. ليحلّ التأويل محلّ النصّ في التعامل مع كل القضايا، وكأن مُنزّل النصّ، سبحانه، كان بحاجة إلى ترجمان لتأويل مراده عزّ وجلّ.
وكلما زاد التردي الاجتماعي والاقتصادي، زاد الالتفات إلى ما هو خارج الصندوق الحياتي القائم على الأسباب المادية، فيكون التأويل البشري للدين وسيلة أولًا لتبرير استبداد الحاكم، ولخنق الحرية الإنسانية في الإبداع، ثم لإلهاء الجماهير عن تردّي أوضاعهم المادية. وتمضي آلة التأويل السلطوي للدين في صيرورة متواترة التصاعد، لتنتج في النهاية دينًا بشريًا موازيًا. وعليه، فتلك الظاهرة — الموجودة في كل الأديان السماوية — بدأت بعد سقوط الحكم الرشيد بمقتل عليّ عليه السلام، وترسخت بمقتل الحسين عليه السلام، وتحوّل الفقهاء إلى ترسيخ حكم بني أمية ومن جاء بعدهم من مُلك عاضٍ مستبد.
لذا، فمن المُلاحظ أنه حينما يصل التأويل البشري السلطوي إلى غايته، يتم الإعلان عن غلق باب الاجتهاد خوفًا من إنتاج تأويلات بشرية أخرى موازية ومتصارعة. فيتحول التأويل البشري إلى مؤسسة حاكمة، رادعة لكل من يفكر في إنتاج تأويل موازٍ؛ فلنتذكر مصير الحلاج والسهروردي وغيرهم ممن قدّموا منتوجًا أكثر روحانية والتصاقًا بروح الدين.
تبدأ تلك الصيرورة الجهنمية حينما تتبنّى الدولة رؤية دينية وتنتصر لتأويل ما. حدث هذا في المسيحية حينما تبنّت الإمبراطورية الرومانية المسيحية، وكان ما كان في مجمع "نيقيا"، والانتصار لما يُرسّخ وجود الإمبراطورية. وحدث الشيء نفسه بعد "كربلاء" عند المسلمين. ففكرة استبداد التأويل فكرة إنسانية عامة عند كل الأمم.
وحينما خرج الغرب من تلك الدائرة الجهنمية بعد الحروب الدموية التي انتهت بالحرب العظمى الثانية، وبتبنّي فكرة الدين وتأويلاته كسبيل للارتقاء الروحي في علاقة خاصة بين المواطن وما يدين به، بالتوازي مع الأخذ بالأسباب المادية؛ حدث ما ترونه من ارتقاء على كافة المستويات.
فهل ما زال علينا تسديد المزيد من قرابين الدم حتى نصل إلى ما وصل إليه الغرب؟ هل ما زالت الطريق مليئة بالأحاجي والألغاز التي ينبغي علينا حلها كما فعل أوديب اليوناني؟ أم أن أوديب العربي لم يوجد بعد، ولم يُؤهَّل بعد لمواجهة أحاجي أبي الهول؟ هل من سبيل للتصالح مع أنفسنا ونصوصنا وتأويلاتنا الميتافيزيقية، وعقد مصالحة ما بينها وبين حاجاتنا المادية والحياتية، في محاولة لتحويلها إلى قاطرة تثويرية تنطلق بنا نحو بناء حياة راقية نستحقها وتستحقنا، دون الوقوع في حقل ألغام التاريخ ومشاحناته وسلطويته التأويلية الجبارة ودمويته وما فيه من ثارات مؤرقة مؤجّجة لصراعات مهدرة للطاقة والجهد؟ ربما تُفلح أجيال الميديا البديلة وسيل المعلوماتية المتسارع المتبادل من أقاصي المعمورة لأقاصيها فيما فشلنا فيه وفشل فيه أجداد أجدادنا.