لماذا صدمتنا صفحة شيخ الأزهر ببيان رثاء الحويني؟
محمد فرحات
2025 / 3 / 19 - 12:01
"ليس الإشكال في رثاء الموتى، بل في رثاء من أمضى حياته في تبديع الأحياء والطعن في المؤسسة التي ترثيه."
أثار البيان الصادر عن الصفحة الرسمية لشيخ الأزهر الشريف في رثاء الشيخ أبي إسحاق الحويني جدلًا واسعًا وردود فعل متباينة، ليس فقط في أوساط المهتمين بالشأن الديني، بل حتى في دوائر النخبة الثقافية والجمهور العام. ولم يكن سبب هذا الجدل مجرد صيغة الرثاء أو توقيته، بل الدلالات العميقة التي يحملها صدور مثل هذا البيان من جهةٍ تمثّل المرجعية الدينية العليا في العالم الإسلامي السني.
فشيخ الأزهر، بصفته وموقعه، لا يمثل ذاته فحسب، بل يُمثّل تيارًا راسخًا من أهل السنة والجماعة، يتمثل في المدرسة الأشعرية والماتريدية التي شكّلت عبر قرون الامتداد العقدي والعلمي للأزهر الشريف. هذه المدرسة المعروفة بوسطيّتها وتعقّلها، ظلت سدًا منيعًا أمام موجات التجسيم والتشدد التي حملها التيار السلفي الوهابي منذ نشأته في الجزيرة العربية مطلع القرن الثامن عشر.
من هنا جاءت الصدمة. فالشيخ الحويني، رحمه الله، لم يكن مجرد داعية تقليدي، بل كان من أبرز رموز المدرسة السلفية الوهابية، وأحد أعمدتها الدعوية في العالم العربي، وقد تميز خطابه - بشهادة مريديه وخصومه على السواء - بالتشدد العقدي والنقد الحاد للمدرسة الأزهرية، حتى بلغ الأمر به إلى اتهام الأشاعرة والماتريدية بالضلال، وتبديع علماء الأزهر ومناهجه التعليمية، باعتبارها مخالفة لما يسميه “منهج السلف الصالح”.
صدور بيان رسمي من مكتب شيخ الأزهر برثاء شخصية كهذه، يبعث برسائل ملتبسة في نظر كثير من المتابعين. فحين يرى عامة الناس هذا البيان، فإنهم يقرؤونه كنوع من الإشادة أو التزكية أو على الأقل كنوع من الاعتراف الضمني بمكانة الرجل ومذهبه، دون إدراك للفروق العقدية والمنهجية الجوهرية بين التيارين. وهنا مكمن الخطورة: فمثل هذه الرسائل تُربك بوصلة الوعي الديني، وتُذيب الحدود الفاصلة بين منهج الاعتدال الأزهري ومنهج الغلو السلفي، خاصة لدى من لا يمتلك أدوات التمييز أو خلفية علمية دقيقة.
إن المشكلة ليست في الرثاء الإنساني ذاته، فهذا سلوك محمود تُقرّه مكارم الأخلاق، ولكن في رمزية المُرثى وموقعه الفكري المناقض لمؤسسة الأزهر. فكيف تُرثى شخصية قضت عقودًا في الطعن في المرجعية الأزهرية وتفسيق رموزها؟ وكيف يُفهم هذا الموقف من قبل المتابعين، في ظل صراع فكري واضح بين التيارين لم يكن يومًا خفيًا؟
التاريخ القريب يشهد على جهود كبيرة قام بها علماء الأزهر في التصدي للفكر الوهابي المجسِّم، بدءًا من الشيخ محمد بخيت المطيعي، ومرورًا بالإمام زاهد الكوثري، وانتهاءً بالإمام الأكبر الشيخ شلتوت ومن بعده. كانت تلك جهودًا علمية حاسمة لإبراز الفرق بين منهج أهل السنة الحقيقي، وبين ما وصفوه بتيار الحشو والتشدد.
وفي ظل هذا التراث العقدي، فإن واجب المؤسسة الأزهرية اليوم، لا يقتصر على التفاعل الاجتماعي المجامل، بل يقتضي قدرًا أكبر من الحذر في الخطاب الرمزي، حفاظًا على المرجعية العلمية من جهة، وصيانة للوعي العام من جهة أخرى. فالناس تنظر إلى ما يصدر عن الأزهر بصفته معيارًا لما يُقبل ويُرفض في الشأن الديني، وما يُزكّى وما يُستبعد.
باختصار، ليس المطلوب من الأزهر أن يُخاصم الجميع، ولكن أن يُبقي على وضوح هويته الفكرية، دون لبس أو تداخل، خاصة في زمن تُشوّه فيه المرجعيات وتُخلط فيه المسارات.