فاطمة حدّاد الشامخ.. أبرز القامات التونسية في مجال الفلسفة
فهد المضحكي
2025 / 3 / 8 - 14:05
تعتبر الراحلة فاطمة حداد الشامخ (1936-2013) أول امرأة تُدرس الفلسفة في تونس. تتلمذت وتخرجت على يدها أجيال من الطلبة وأساتذة الفلسفة التونسيين.
في مقال لها نُشر على موقع «ليدرز» العربية، تقول الكاتبة حنان الأندلسي: نشأت فاطمة حداد في بيئة وطنية تؤمن بحقوق المرأة في التعليم. تلقت تعليمها في معهد نهج روسيا. بعد حصولها على الشهادة الثانوية العامة «البكالوريا» لم تمانع عائلتها في أن تواصل تعليمها العالي في فرنسا، خاصة أن اثنين من أشقائها كانوا يدرسون هناك. سجّلت بجامعة فرنسية في قسم الفلسفة وحيث تحصلت على الأستاذية في الفلسفة وكذلك على الأستاذية في الآداب واللغة الإنجليزية. مكنتها هذه التجربة من التتلمذ على أيدي كبار الفلاسفة الفرنسيين ومنهم بول ريكور وخلال تلك الفترة، تقدمت لمناظرة التبريز في الفلسفة، لتصبح أول امرأة مبرّرة في تونس في هذا المجال.
علاوة على ولعها بالعلم، كان لديها حسّ وطني عميق، دفعها إلى المشاركة في التظاهرات ضد المستعمر وهي بعد تلميذه في تونس، والى حضور بعض الاجتماعات التي كان يعقدها الحزب الدستوري في المساجد. وانتمت في ذلك الوقت إلى الاتحاد العام لطلبة تونس الذي واصلت النشاط ضمنه، وهي طالبة في باريس زاد نشاطها السياسي.
بعد عودتها إلى تونس، عملت في المعاهد الثانوية قبل أن تبدأ التدريس بالجامعة التونسية وتحديدًا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية. هناك ترأست قسم الفلسفة، كما عملت على مدى 40 سنة، أشرفت خلالها على العديد من البحوث ورسائل الدكتوراه.
كانت ترى في تدريس الفلسفة في الجامعة رسالة مقدّسة وكانت تعتبر أن «البيداغوجية هي فن تكوين أدمغة قادرة على الوصول إلى فهم الذات الفلسفية والسياسية»، كما أن «البيداغوجية الناجحة» من وجهة نظرها، «تلك التي تجعل الطلبة يجدون طريقهم نحو الحكمة ليغيروا الواقع الذي يعيشون فيه، حتى يستطيعون التأثير فيه».
ثمة مقالات نشرتها الصحافة التونسية تشيد بالشامخ الملقبة بـ «أيقونة الفلسفة التونسية» بعضها يقول: «لم تدخر جهدًا في تكوين طلبتها وصقل مهاراتهم ودفعهم إلى التساؤل حول حياتهم ومجتمعهم وتنمية الفكر النقدي لديهم». «السيدة فاطمة حداد الشامخ، كثيرون لا يعرفون هذا الاسم، لكن كثيرون أيضًا لا يستطيعون نسيان علم شامخ تخرجت على يديه أجيال من قادة الفكر والسياسة والرأي لا في تونس فحسب، بل حتى خارجه».
كانت فاطمة حداد عزيرة الإنتاج، حيث كتبت كمًا هائلاً من الدراسات والمقالات العلمية، باللغتين الفرنسية والإنجليزية، لكنها كانت تميل بشكل خاص إلى فلسفة سبينوزا، حيث كانت رائدة البحوث السبينوزية في الجامعة التونسية. فرسالة الدكتوراه التي أنجزتها تحت إشراف الفيلسوف الفرنسي بول ريكور كان عنوانها «الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السياسية عند سبينوزا».
وبحسب الباحث والمترجم التونسي جلال الدين سعيّد، الذي كان له الفضل في ترجمة هذه الرسالة القيّمة من الفرنسية إلى العربية، فإن الفيلسوفة أرادت، بفضل قراءة جديدة ومقاربة لم تكن بعدُ مألوفة، إعادة موضعة أنثروبولوجيا سبينوزا وسياسته ضمن نسقها العام، وأن تبيّن كيف أنّهما، بدلًا من أن تنفصلا عنه أو تحلاّ فيه محل التذييل، تندمجان فيه وتؤلفان عنصرًا من عناصره الهيكلية. فهي أرادت أن تنطق من فرضية أنّ السبينوزية، بعيدًا أن تكون مجرد «ثيوصوفيا» وتعني ممارسات روحية، إنما هي أيضًا مذهب أنثروبولوجي وسياسي. ولقد كان غرضها من خلال تقصيها لمذهب سبينوزا هو أن تنزّل ضمن مبحثه السياسي، كي تبيّن أن المشروع السياسي ليس ثانويًا أو عرضيًا بقدر ما ينصهر في النواة المركزية (الإيتقيا)، حتى وإن كان الخطاب السياسي يطرح في كتابات جانبية (الرسالة اللاهوتية السياسية، والرسالة السياسية).
ويضيف سعيّد: «عمومًا فإنها أرادت أن تتطلع إلى ما تكشف عنه النصوص، وإلى الإنجاز الفعلي للمذاهب كما إلى بنية النسق برمّته. إي أن تتطلع إلى وجود نسقٍ فلسفي سياسي عند سبينوزا».
وعلى هذا فهي قد دأبت على اقتفاء خطوات سبينوزا وعلى ربط الفلسفة السياسية عنده بنسقه الفلسفي، فكان لا بد لها من خطة عمل تمثلت في البحث عن أسس الفلسفة السياسية، وعن مبادئها في الرسالة اللاهوتية السياسية، وعن مقولاتها في الرسالة السياسية.
بفضل هذا العمل ذاع صيتها في تونس وخارجها وتمت دعوتها لإلقاء محاضراتها في عديد من الملتقيات العلمية. كما أصبحت تُدرّس في جامعات أوروبية وأفريقية.
إلى جانب التدريس وإنتاج البحوث في الجامعة، كان للفيلسوفة نشاط سياسي ضمن الحزب الاشتراكي الدستوري واللجنة المركزية للاتحاد الوطني للمرأة (1966-1972). وكانت قضايا المرأة التونسية والنهوض بها شغلها الشاغل، لذلك ناضلت ضمن جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية وكذلك في مراكز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة (الكريدف). وبعيدًا عن النضال النسوي السياسي، كانت الفيلسوفة عضوًا في اللجنة الوطنية للأخلاقية الطبية.
ويدل تعدّد الأنشطة العلمية والسياسية والجمعياتية على أن فاطمة حداد كانت لها رؤية شمولية لمشاركتها في نهضة بلدها وازدهاره، وأنها لم تكن تتردد في خدمته من أي موقع كانت تشغله. وهي سمة مميزة لجيل كامل من النساء والرجال الذين عرفوا الاستعمار، ثم الحركة الوطنية، والاستقلال وما طرحه على التونسيين والتونسيات من تحديات لبناء بلد ناشئ يحتاج إلى كل طاقاته وأبنائه ليجد له مكانًا تحت الشمس.
كانت ترى أن نضالها يندرج ضمن المشروع الحداثي البورقيبي، الذي آمنت به منذ الحقبة الاستعمارية، حيث رأت في بورقيبة القائد القادر على تخليص الأمة وتحريرها والنهوض بها. فبورقيبة، حسب بعض الآراء، كان أحد الرجال الثلاثة الذين أثروا في مسيرتها، بالإضافة إلى والدها ومعلمها، الفيلسوف بول ريكور.
وكما يبيّن الباحث سعيّد، لقد جاءت مؤلفات فاطمة حداد في معظمها باللغة الفرنسية، وجاء بعظها باللغة الإنجليزية، ولم يُنقل منها إلى العربية إلا القليل. ويمكن لقارئها أن يستخلص المنبع الرئيس الذي استلهمت منه تفلسفها، والهاجس الذي مانفك يراودها، والهدف النبيل الذي سعت إليه إلى آخر رمق من حياتها. وقد لخصت ذلك بنفسها، في مداخلة بعنوان «التفلسف هنا الآن»، صدرت ضمن أعمال ملتقى «التفلسف اليوم وهنا» الذي أقيم تكريمًا لها في عام 2003 بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، وهي نصوص جمعها وأعدّها للنشر الأستاذ محمد محجوب، بتونس، دار سَحَر للنشر، 2007، حيث قالت: «ما هي نصوص سبينوزا التي ألهمتني؟ كان أولها كتاب الإيتيقا، وهو نص صعب معقد غزير جعلني أدرك أن السؤال الحق، بل وظيفة التفلسف الحق بالنسبة إلى كل كائن بشري إنما تتمثل في تحرير الذات من عبودية الأهواء ومن الانفعالات المضطربة، وذلك بإنماء نشاط العقل الذي تظهر علامته في الشعور بالبهجة والفرح كما في تفتق الكينونة واقتدارها. لكن لا يفوتني أن أذكر أيضًا الرسالة في اللاهوت والسياسة وكتاب السياسة، لأنّ شغلي الشاغل كان ولا يزال زيادة على لأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وعلى الإيتيقا، هو فلسفة سبينوزا السياسية، وفهمه للسياسي، وتطوير المفاهيم السياسية مثل مفهوم الدولة، السلطة، والقانون، والمؤسسة، والحكم، وبقاء الدولة أو انهيارها، والثورة، والمواطنة، وأخيرًا (تفكيكه) للسلطة السياسية إلى معنيي القدرة السياسية والعنف السياسي، إذ لم يحصل هذا التفكيك مع كبار المفكرين السياسيين في العصور الحديثة، وخاصة منهم مكيافيلي وهوبز اللذين يذكرهما ويقف قبالتهما».
كانت فاطمة الشامخ، شأنها شأن الفلاسفة الذين سطع نجمهم واشتهروا مدرّسين أكثر مما اشتهروا أصحاب مذاهب فلسفية، رائدة للبحوث والدراسات السبينوزية بالجامعة التونسية.
بطاقة تهنئة:
تحية عطرة لنساء وفتيات بلادي في يوم المرأة العالمي، الذي يصادف اليوم الثامن من مارس.. تحية إلى المرأة أينما كانت وهي تناضل من أجل الحفاظ على مكتسباتها وتحقيق المزيد من أهدافها وتطلعاتها في المساواة بين الجنسين والديمقراطية والعدالة والحرية.