مسلسل -معاوية-
محمد فرحات
2025 / 3 / 3 - 19:53
عندما تتحول الدراما إلى أداة سياسية، يصبح من الضروري تفكيك خطابها، ليس فقط باعتبارها عملاً فنياً، ولكن كمنتج ثقافي محمّل برسائل أيديولوجية. الإنتاج الدرامي التاريخي ليس بريئًا، بل هو امتداد لصراعات الحاضر بأدوات الماضي. ما يحدث في مسلسل "معاوية" من تزوير وتحريف لأحداث تاريخية ثابتة وموثقة، ليس مجرد سرد لقصة رجلٍ صعد إلى الحكم، مخاتلة ومؤامرة. بل إعادة تأطير لفترة حساسة في التاريخ الإسلامي تخدم رؤى سياسية محددة. في مثل هذه الحالات، لا يتم اختيار الشخصيات بشكل عشوائي، بل وفق اعتبارات دقيقة تتناسب مع طبيعة التحولات الجيوسياسية الراهنة.
في ظل الاستقطاب السني-الشيعي في المنطقة، لا يمكن فصل العمل عن محاولات خلق وعي تاريخي جديد يتماشى مع التحولات الإقليمية. هنا يصبح التوظيف السياسي للدراما أكثر وضوحًا، حيث يُعاد تشكيل صورة معاوية ليظهر كحاكم بارع استطاع توحيد الأمة، بينما يتم تهميش الجوانب الجدلية في سيرته. هذه ليست مجرد مراجعة تاريخية، بل إعادة إنتاج متعمدة تخدم الخطاب السائد. المشهد ليس جديدًا، فقد رأينا أعمالاً أخرى، عربية وغربية، تعيد رسم التاريخ بما يخدم مصالح الممولين، سواء في السينما الهوليودية أو في الدراما العربية التي تعكس دائماً مزاج القوى المسيطرة.
تكمن الإشكالية في أن هذه السرديات تُقدَّم لجمهور لم يعد يتعامل مع التاريخ بوصفه مجالًا للنقد والتحليل، بل كقصص جاهزة تُستهلك دون مساءلة. في عالم تُختزل فيه المعرفة في مشاهد درامية سريعة، يصبح المسلسل هو "الحقيقة" بالنسبة للكثيرين، بينما تُهمَّش المصادر الأكاديمية والتاريخية التي قد تقدم رؤية أكثر توازنًا. في هذه البيئة، يتحول التاريخ إلى مادة قابلة للتلاعب، حيث تُستخدم الصورة والسيناريو والموسيقى التصويرية لصياغة وعي جديد، قد يكون أبعد ما يكون عن الحقائق التاريخية.
المسألة لا تتعلق فقط بهذا المسلسل بعينه، بل بكيفية تشكيل الوعي العام عبر الدراما. كيف يمكن لجيلٍ لم يعد يقرأ أن يميّز بين الرواية التاريخية المدعومة بأجندات، وبين البحث التاريخي القائم على التوثيق والتحليل؟ في ظل هذه المعادلة، يتحول المثقف إلى طرف ضعيف في معركة غير متكافئة، حيث تُبنى القناعات على الصورة، وليس على النصوص. السؤال هنا: هل يستطيع الإعلام البديل تقديم خطاب مضاد قادر على التأثير، أم أن قوة الإنتاج المرئي ستظل صاحبة الكلمة العليا؟!
في عالم يتجه نحو "الأمية التاريخية"، يصبح من السهل التلاعب بالذاكرة الجماعية، حيث يُعاد تشكيل الماضي ليناسب مصالح الحاضر. عندما يكون المرجع الوحيد للأجيال هو المسلسل، وليس الكتاب، فإن إعادة كتابة التاريخ لم تعد مجرد مشروع فكري، بل استراتيجية سياسية لها آثار بعيدة المدى. التحدي اليوم ليس في كشف التلاعب بالتاريخ فحسب، بل في إيجاد وسائل جديدة لمخاطبة جمهورٍ لم يعد يبحث عن الحقيقة في المكتبات، بل في مشاهد مختصرة ومؤثرة تُعرض على الشاشات.