شكرا فؤاد زكريا... 1927-2010


صوت الانتفاضة
2025 / 1 / 28 - 23:46     

"المفهوم المادي للعالم يعني ببساطة تصور الطبيعة كما هي دون اية إضافة غريبة".. كارل ماركس.

عندما تقع في مشكلة مثل نظرية المعرفة، فأن أي كتاب يساعدك في ذلك ستكون ممتنا جدا لمؤلفه، ويمكن القول ان نظرية المعرفة هي أحد اهم واعقد المشاكل الفكرية التي واجهت الانسان، كيف تأتيه المعرفة؟ من اين يستقي معرفته عن العالم والطبيعة والمجتمع والفكر؟ ما هي علاقة الفكر بالوجود؟ هل هناك شك بوجود العالم الخارجي؟، انها المسألة الأساسية للفلسفة بشكل عام كما يقول انجلز، او كما يقول بليخانوف فأن (مسألة العلاقة بين الوجود والفكر قد انتصبت كأبي الهول امام مفكري عصر الانوار لتقول لهم "اكشف سري والا التهمت مذهبك").

الفلاسفة عموما لم يستطيعوا ان يتجاوزوا هذه المشكلة، فجميعهم مر عليها بشكل أو بأخر، وكل ادلى برأيه فيها، مما زاد من غموضها واشكاليتها، وقد انقسموا الى معسكرين كبيرين، القسم الذي امن بإنكار العالم الخارجي او التشكيك فيه، وامن بأن قوى غريبة هي من تحكم العالم، وبأن معرفتنا بالعالم مشكوك فيها او محدودة، وامن بأولوية الروح على الطبيعة، وهذا المعسكر يمثل مختلف مدارس المثالية؛ اما الاتجاه الاخر فهي المادية التي امنت بأولوية المادة وليست احساساتنا وفكرنا سوى نتاج الواقع وانعكاسه، وان العالم موجود بشكل موضوعي، وأكدت أيضا على معرفة العالم وقوانينه.

فؤاد زكريا في كتابه "نظرية المعرفة" ذو المئتي صفحة، يبدا بالقول انه "اشعر بالدهشة كلما رأيت فيلسوفا يشك في وجود العالم الخارجي او يصفه بأنه من خلق الذات"، مضيفا بانه لم يكف عن "الاعتقاد بأن في الامر خطأ...المشكلة كانت بالنسبة لي: اين يكمن الخطأ"؟ لهذا فقد بدأ بحثه بشكل رائع في تأصيل المشكلة، عارضا لنا وعبر فصول عدة تلك القضية.

انه يطلق على الجانب المادي تسمية "الموقف الطبيعي"، وهو اشارة ذكية، لفلسفة تتبنى كما يقول في تعريفه "نظرة الانسان العادي الى العالم الخارجي، إذ ينسب الى هذا العالم، بما فيه من أشياء، وجودا مستقلا عن ذاته"، فهذه النظرة يعتبرها فؤاد هي الموقف الطبيعي الذي يجب ان يتبناه الانسان الطبيعي؛ في مقابل ذلك فأنه يسمي المثالية بأنه "مذهب يعارض الموقف الطبيعي في نظرته الى العالم الخارجي بإنكار استقلال هذا العالم أو التشكيك فيه".

يعرض وجهات نظر الفلاسفة بكل امانة فكرية، ممثلي الاتجاه المثالي، مبتدئا بجون لوك، الممثل الرئيس للفلسفة التجريبية وتلامذته هيوم وباركلي، ديكارت ممثل النزعة العقلية، وتلامذته لايبنتز، ولا ينسى ارسطو والفلسفة اليونانية القديمة، ويتوقف عند گانط وترسنتداليته، شوبنهاور وهوسرل، منتقلا الى بيرسون وآير وماخ، عارضا مراحل الفكر المثالي "الشك في الحواس، صفات الأشياء موضوعية أم ذاتية؟ الأشياء بوصفها ظواهر، مذهب الظاهريات والموقف الطبيعي، مشكلة خارجية العالم، دور العقل في مشكلة المعرفة"،

ويخلص بعد هذه الرحلة الفلسفية الى ان "نمط المفكرين الذين يقضون حياتهم في سبيل اثبات فكرة يكذبها سلوكهم العملي نفسه في كل لحظة"، هذا التفكير لا مبرر له، لأنه "لا يضيف أي شيء الى محتوى المعرفة البشرية".

ويختم فؤاد في مقدمة كتابه "نظرية المعرفة" بأن المسار الفكري والفلسفي للإنسان (سيصل يوما ما الى دحض كامل للموقف المثالي، بحيث يتسق سلوك الانسان العملي مع تفكيره النظري، ولا يعود في وسع أحد ان يقول مرة أخرى: ان وجود العالم الخارجي امر مشكوك فيه، أو وهم لا أساس له، أو أن ذلك العالم من خلق الذات).

شكرا لك فؤاد زكريا على هذا العرض الشيق والممتع لمشكلة غاية في التعقيد.

طارق فتحي