عن الطوفان وأشياء أخرى (24)


محمود الصباغ
2025 / 1 / 25 - 11:25     

-"سخونة الجغرافيا"
نقرأ من التاريخ أنه مثلما لا يوجد انتصار سهل؛ لا توجد أيضاً هزيمة غير مستحقة. ودون أدنى شك، طالما نحن كذلك، فلن يستوقفنا أحد -ولا حتى التاريخ نفسه- ونحن نغادر هذه الحياة ليطلب منا أن ندع مصيرنا- مصائرنا خلفنا.
إن غزة الآن هي المختبر المثالي للبراعة الإسرائيلية في الهيمنة. إنها تتويج للحلم الصهيوني في "الحل النهائي" أي التطهير اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم؛ أو -بالحد الأدنى- إبقائهم مسجونين إلى أجل غير مسمى. وتطبيق اختبارات وتقنيات القتل الرقمية المتنوعة عليهم.
فهل سيقف الأمر هنا؟ عند غزة؟ أو الضفة؟ أو جنوب لبنان؟
ما لم يتخذ العالم خطوة شجاعة للأمام للتخلص من الفكرة الصهيونية على غرار ما حصل مع الفكرة النازية أو الأبارتيد فإن "فَلَسْطَنة" أي مكان آخر في هذا العالم ليست بالأمر المستبعد... من كشمير إلى دونباس إلى جيانشينغ وسوريا وغيرها وغيرها.
قد لا يخرج الفلسطينيون من التاريخ العالمي اليوم أو غداً أو بعد غد؛ لكن هذا الصمت العالمي المريب سيقرب من هذا اليوم؛ وسيتم نسخ هذا النوع من الإبادة في مناطق أخرى (حدود الولايات المتحدة مع المكسيك مثلاً) إذ لم يعد واقع الاحتلال مجرد حالة سياسية مؤقتة بل تحول إلى جزء أساسي من منظومة اقتصادية ربحية تستحق مثل هذه المغامرة وسوف تتحول عقيدة نتنياهو إلى مانفيسيتو عالمي لقوى الفاشية الجديدة والنيوليبرالية تقوم على إيديولوجية التفوق العرقي القومي "الأبيض" (أو أي لون آخر حسب الجغرافيا) تستند في جوهرها على تقاليد القرن السادس عشر الاستعمارية (تدمير المجتمعات المحلية ووجودها السياسي والاجتماعي؛ بما يتعدى مجرد السيطرة العسكرية، بل تفكيك كيانية المجتمعات الضعيفة (ليس بالضرورة أن تكون مستعمَرة بالمعنى التقني) برمتها كهدف مركزي يقوم على الإبادة السياسية والتفكيك والانحلال الوجودي للمجتمع بشكل نهائي من أجل السيطرة المطلقة على الفضاء المحلي، ولن تستطيع القوى الاستعمارية فعل هذا دون تجريد السكان الأصليين من إنسانيتهم وبالتالي تبرير التخلص منهم عبر أدوات قتل وإبادة باتت الآن جزء صناعة عالمية رائجة.
مما لا شك فيه أن الوعي العالمي بفظائع الاحتلال قد ازداد، وساعد في ذلك جزئياً الرؤية الخام "غير الخاضعة للتقميش والتحرير" للفلسطينيين وهم يواجهون قطعان المستوطنين المتطرفين أو الجيش وتقنياته الأمنية المتعددة. مما يعني كشف زيف الصور المرئية التي تختار عرضها الجهات الإسرائيلية لإنكار حقيقة ما يقول الفلسطينيون عن معاناتهم.
وإذن ... يا أيها... مهما كان التاريخ قاسياً لكنه قطعاً لا يستضيف في مزبلته الشهداء والأبرياء.
ثم يأتي من يقول، في فسحة بين حالين الجنون أو الصبر، بـ "سخونة الجغرافيا" وكأنه يخترع شكلاً جديداً "خلنج" من أشكال المادة ...
-العالم كما يراه الرجل الأبيض
من يتابع تصريحات ترامب حول كندا وبنما وجرينلاند، وهمسات الكابينيت الإسرائيلي حول سوريا وغزة وجنوب لبنان واليمن ... يعتقد أننا لم نبرح القرن السادس عشر بعد. حين مكنت الحروب الاستعمارية من سيطرة أوروبا على معظم الجغرافيا العالمية (1) صحبة عنف جماعي ضد الشعوب المستعمَرة، ولاستمرار هذه السيطرة قاتلت وقتلت هذه القوى الأوروبية والمستوطنين في مستعمراتهم أي شخص قاومهم، بزعم أنهم أجبروا على تلويث أيديهم بدماء هؤلاء المقاومين. وكانت ذرائع "الأمن واستتبابه" وراء تلك النسبة الطردية العالية بين الدمار المدني وحجم الانتقام الأمني عند وصوله إلى أعلى مستوياته، أي "الأمن الدائم" -ويتم تنفيذ ردود الفعل الاستعمارية المتطرفة على التهديدات الأمنية، تحت عنوان الدفاع عن النفس، وسوف تستهدف هذه الإجراءات الأمنية "المستدامة" السكان المدنيين بلا تمييز، كمجموع وليس كأفراد، في إطار منطق يضمن عدم السماح لـ "الإرهابيين" و"المتمردين" بتشكيل تهديد مرة أخرى من أي نوع. بكلام آخر، تظهر هذه الإجراءات الأمنية كمشروع يسعى، في هدفه النهائي الاستراتيجي، إلى تجنب أي تهديدات مستقبلية من خلال توقعها الآن وهنا. ويمكن ملاحظة نتائج هذه الإجراءات وأهدافها في العديد من الأزمات الإنسانية الجارية.، مثل مسعى نتنياهو مثلاً إلى "تحضير" و "إعادة تثقيف" سكان غزة (2)
.....
1.تكرس الأمر بشكل عميق مع نهاية القرن التاسع عشر مع انفتاح الدولة الأوروبية الحديثة. وحيث لم يكن بقدرة هذه الدول توليد فائض قيمة رأسمالي بهامش عريض يسمح لها بدفع تكاليف مؤسساتها العسكرية والأجهزة البيروقراطية اللازمة للحفاظ عليها وإدامتها لولا وجود هذه الممتلكات الإمبراطورية وتلك التجارة المربحة (من رقيق وغيره. ولاستمرار هذه
2. يزعم الإسرائيليون أن الفلسطينيين يكذبون بشأن ظروفهم رغم ما نراه ويراه العالم "الحر" وغيره. وفي الواقع، لن تؤدي رؤية الفظائع الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الغرض منها -حتى لو كانت موثقة- عند من لا يرون الفلسطينيين بشراً، بل جماعة إثنية/ عرقية" طارئة على التاريخ لا يشكل موتهم أو قتلهم فرقاً، وقد بدأت هذه الصورة الأخيرة تتعمق أكثر في المجتمع الإسرائيلي تحديداً مع تآكل الفروق الإيديولوجية بين اليسار واليمين وانتقال غالبية المجتمع إلى اليمين. هذا الصراع بين الحقيقة التي تكشفها التكنولوجيا وحقيقة العقلية الاستعمارية الراسخة، التي تتبناها إسرائيل، هو ما يواجه الفلسطينيين في محاولاتهم المستمرة لفضح الظلم الذي يتعرضون له.