عن الطوفان وأشياء أخرى (23)
محمود الصباغ
2025 / 1 / 25 - 09:05
-مغامرة الصراع مع إسرائيل
تُظهر وقائع الصراع مع إسرائيل، وبالأخص في أعقاب كل جولة حرب تليها "اتفاقات" لوقف إطلاق النار، أن الفلسطينيين هم الوحيدون -عملياً- الذين يتحملون مخاطرة (أو مغامرة إن شئت) الاستمرار في مقاومة الاحتلال، رغم ما تنطوي عليه هذه المخاطرة من تكلفة عالية. الأمر الذي يمثل تحدياَ، بل معضلة، للأطراف والقوى الفلسطينية على صعيد العمل المقاوم. ويشبه هذا ما واجهته -وسوف تواجهه-، حركات التحرر في تاريخ مقاومة الاستعمار (في مقدمة هذه التحديات -بالطبع- القول بعدم القدرة على تحقيق منجز حقيقي -مهما بلغ حجم التضحيات والبطولات- ما لم تتوافر رؤية سياسية شاملة وبرنامج عمل واقعي متكامل؛ يأخذ في حسبانه واقعية الفعل المقاوم وإمكانات الحركة وقدرتها على تنفيذ أهدافها ضمن ما هو متاح على أرض الواقع.
إن المراقب للمشهد لا يمكنه أن يكون متفائلاً فتوالي الهزائم والنكسات عكست أو حتى خلقت تفاعلاً سلبياً بين الفلسطينيين ومحيطهم العربي العضوي؛ وأوجدت لدى البعض منهم شعوراً يدفعهم للاعتماد على أنفسهم لمواجهة هذه الإسرائيل بالوسائل المتاحة أو المتوفرة (نستعيد هنا انتفاضة الحجارة؛ حيث بدا للكثير -في لحظة ما قبل اندلاعها في مخيم جباليا- أن روح المقاومة خفتت بسبب الرهبة والوهم: الرهبة من بطش العدو وغطرسته؛ والوهم بمناخات تسويات قادمة من عاصمة عربية أو أجنبية)
أدركت أجيال الصهيونية المتعاقبة* أن ثمة "ناس" يعيشون على هذه الأرض، ولن يتخلوا عنها عن طيب خاطر. فاختزلوا إلى مجرد "شيء" أخرس طارئ على التاريخ، مجرد ناس حصلت معهم أمور ما -في لفتة استعمارية لا تعترف بهم كبشر لهم موضوعاتهم وحياتهم الخاصة-. فعلى سبيل المثال لم يستطع الإسرائيليون السيطرة على الانتفاضة الأولى أو القضاء على فعالياتها، (حتى بتطبيقهم نصائح "اليهودي الأسطوري" هنري كيسنجر - بقصد كسر الانتفاضة- بأن "اطردوا كاميرات التلفزة، على غرار ما كانوا يفعلون في جنوب أفريقيا"؛ و"اقمعوا أعمال الشغب بوحشية، وبسرعة وشمولية"). فكان لابد من القيام بمناورات من نوع آخر. وما جعل إسرائيل تسارع في الوصول إلى تسوية قرار الملك حسين بفك الارتباط بين الضفة والأردن في نهاية تموز 1988**، ما يعنى فشل رهاناتها السابقة على ما ترغب أن تتعبد في محرابه أي، "الخيار الأردني". كما ساعدها في ذلك خطاب الرئيس عرفات في البرلمان الأوروبي (أيلول 1988) وجملته الشهيرة "سلام الشجعان" ثم "إعلان الاستقلال" في الجزائر "تشرين الثاني 1988".
تلقفت إسرائيل إشارات عرفات المتعاقبة بإعلانها القبول [ولو ظاهراً] بتسوية سياسية للصراع في شقه الفلسطيني يقوم على مبدأ حل الدولتين، وهذا من شأنه احتواء الانتفاضة جزئياً أو كلياً؛ ومن ثم إخمادها عبر خلق "نظام حكم" فلسطيني يشبه في طبيعته أنظمة الحكم العربية [وهذا ما حصل فعلاً حين تم توقيع اتفاق أوسلو في أيلول 1993؛ ففي الرابع والعشرين من الشهر ذاته تلقى نشطاء الفصائل (باستثناء القوى الإسلامية) ما قيل إنها أوامر مباشرة من الرئيس عرفات بوقف العمليات العسكرية كافة ضد الجيش الإسرائيلي]. وكانت المكافأة اختراع سلطة "وطنية" فلسطينية لتكون، كما يرى خليل نخلة*** " نموذج تحكم للتجريب وإعادة الهندسة. و يبدو أن جوهر هذه التجارب يدور حول السؤال التالي: كيف يمكن إعادة تشكيل و قولبة "دولة وطنية" ملفقة ومنزوعة السيادة لتصبح بحجم شركة حديثة يمكن السيطرة عليها ويديرها كبار المدراء التنفيذيون "السياسيون" وفئة المنظمات غير الحكومية التي أعيد تسييسها. وينظمها ويحافظ على بقائها جهاز أمن جيد التدريب "...............
ما زال الفلسطيني يشكل مقلوباً لـ "الإسرائيلي" بمعانٍ مختلفة بما في ذلك المعنى الوجودي. لذا، لن يقبل العقل الإسرائيلي بوجوده مهما كانت المسوغات والضغوطات. وما يقدمه من "تنازلات مؤلمة" في ساحات ومواقع أخرى؛ يحظر عليه -بصفته الصهيونية هذه المرة – تقديمه للفلسطينيين.
.....
*مأزق الصهيونية الحقيقي-من ضمن مآزق عدة تعيشها- أنه لا يمكنها أن تكون "حركة تحرير وطنية" و "حركة استعمارية" في الوقت عينه، فإذا كانت الصهيونية الإسرائيلية "بمعناها القومي" هي نتاج طبيعي لحركة الاستعمار الاستيطاني الأوروبي حول العالم فإن هذه " القومية الاستعمارية العنصرية" لا يمكنها أن تلتقي مع "حركات التحرر الوطني"، بالأحرى هي على نقيض معها، ومن هنا جاء موقف إدوار سعيد غير المساوم بأن الصهيونية هي حركة استعمارية، ورفض بشكل قاطع اعتبارها حركة تحرر وطني، ومن هذا الموقف اعتبر، أيضاً، أن الخطاب ما بعد الصهيوني-الذي ظهر و تطور في الوسط الأكاديمي الإسرائيلي في تسعينيات القرن الماضي- خطابٌ فارغ ما لم يتضمن إنهاء الاستعمار "نزع الصفة الاستعمارية عن الصهيونية على الأقل". ويعتقد نور مصالحة أن إدوارد سعيد سعى إلى تطوير استراتيجيات إنهاء الاستعمار decolonisation وابتكر طريقة "contrapuntal" الشهيرة (استراتيجية "حجة مضادة") عندما يتعلق الأمر بالصهيونية والأساطير التأسيسية الصهيونية، بينما يسعى هؤلاء الأكاديميون الذين يسيئون استخدام عمل إدوارد إلى "سد الفجوة" بين "المستعمِر" coloniser و "المستعمَر" colonised في سياق الاستعمار الاستيطاني الصهيون الحالي وبدون إنهاء استعمار حقيقي decolonisation، وهو ما يعتقده سعيد مستحيلاً.
**يقال أن هذا تم بطلب من الرئيس عرفات شخصياً كي يتمكن من إعلان "دولته" لاحقاً في جلسة المجلس الوطني في الجزائر. (بمعنى التخلص من الوصاية الأردنية لإدارة الضفة الغربية). والشيء بالشيء يذكر، يتناقل الإسرائيليون فيما بينهم على سبيل التندر الحوار التالي بين يوسي بيلين و فيصل الحسيني:
-يوسي بيلين: ما الحل الأردني الفلسطيني الذي تعتقد أنه ممكن؟
-فيصل الحسيني (يضحك): هل تعتقدون حقاً أن جميعنا أغبياء؟ تتحدثون عن كونفدرالية أردنية فلسطينية، وأنا أقول لك: نحن نريد كونفدرالية إسرائيليّة- فلسطينية.. لم تعتقدون أننا مهتمون بكونفدرالية مع ملكية شرق النهر العاجزة وغير الديمقراطية؟.. سنفضل تأسيس كونفردالية أكثر طبيعية، غرب النهر، مع دولة ديمقراطية مستقرّة وغنية، ولنتعلم الكثير منها».
***خليل نخلة: فلسطين: وطن للبيع، مؤسسة روزا لوكسمبورغ. ص35.