عن الصراع اليوم في مجتمعاتنا


مازن كم الماز
2025 / 1 / 4 - 16:17     

مفهوم أو شعار الدولة المدنية ليس إلا يوتوبيا ، حلم ، و أيضًا أداة سيطرة و بروباغندا … لنحاول فكفكة هاتين الكلمتين لنحاول أن نفهم ما الذي يقصده أولئك الذين يتحدثون عنه … أولًا بالنسبة للإسلاميين و من يلف لفهم من ليبراليين و يساريين كانوا يعرفون بهذا الشعار شكل سيطرتهم المقبول اجتماعيًا و المتوافق مع الايديولوجية السائدة عالميًا ، الليبرالية بأشكالها المحافظة و النيوليبرالية و النيو كولونيالية ، في العمق لم يغير هؤلاء هدفهم و لا تصوراتهم عن الدولة المثالية ، دولتهم ، و لا طبيعة علاقتها بالمجتمع الذي تحكمه ، ما فعله هؤلاء هو أنهم اكتشفوا في الدولة الاسلامية القروسطية ملامح و صفات "مدنية" و بالتالي أعادوا توصيف دولتهم النموذج ، الدولة الثيوقراطية ، دولة الاستبداد الشرقي القائمة على الحق الإلهي عبر ما يسمونه بالشرع كحالة فوق إنسانية يزعمون أنهم هم أيضًا خاضعون لها كبقية البشر لكن وضعيتهم كمنفذين لها و مشرفين على تطبيقها و فرضها و مراقبة ذلك الفرض و حماية قدسيتها و منع البشر من مس تلك القدسية تمنحهم وضعية ملوك بابل و منف أو طيبة في العصور الغابرة كأبناء للإله … بالمقابل بالنسبة لليبراليين العرب و هم مصابون بذات أمراض اليسار العربي السابق و أخطرها هي جبنهم و ترددهم ، فالمدنية هي تخفيف لليبرالية ، ايديولوجية المجتمعات الغربية المتقدمة ، بعد تعديلها بما يتناسب مع الوعي القطيعي السائد في مجتمعاتهم لتصبح في نظرهم الكلمة السحرية للانتقال السحري المفاجىء بضربة واحدة إلى حالة تلك المجتمعات المتقدمة … لكن وراء الأكمة ما هو أكثر من هذه السفسطة النظرية ، فالمدنية الإسلامية هي طريق نخبة خليط من البرجوازية الكبرى و الصغيرة و من البروليتاريا الرثة ، إلى السلطة ، جاء هذا الخليط من مجتمعات محافظة أصيبت بالفزع من انهيار سيطرة وصفتها الأخلاقية و سقوط هيمنة رموزها على الفضاء العام و تحرير هذا الفضاء جزئيًا بما يعنيه ذلك من انهيار كل امتيازات تلك المجتمعات المحافظة المادية و الاقتصادية و تلك المتعلقة بالسلطة … بالمقابل يرى خصومها في شعار المدنية استمرار معظم الحريات الاجتماعية التي تحققت أولًا بفضل محاولات عصرنة السلطنة العثمانية ثم قدوم الاستعمار و بعده حكومات استبدادية لم تقترب من تلك الحريات الواسعة و حاولت خلق توازن مجتمعي بين الأجزاء الأكثر محافظة و تلك الرافضة للمحافظة عبر القمع و تزييف وعي جمعي بلا هوية و لا قيم حقيقية … قامت البرجوازية الصغيرة بمراجعة تاريخية و قررت في مسعاها لبناء يوتوبياها أن "تتصالح" و تقبل بسيطرة الأجزاء الأكثر محافظة على السلطة و الفضاء العام مقابل قيام الأخيرة بإسقاط أنظمة الاستبداد و مشاركة السلطة معها و فتح باب الصعود الاجتماعي أمامها الذي كان شبه مسدود بوجود تلك الحكومات القمعية الاستبدادية … استند هؤلاء في تكويعهم الفكري و السياسي إلى تزييف متعمد و واعي لمفاهيم ليبرالية بينما كان السبب الحقيقي وراء ذلك التكويع أو الانقلاب الفكري السياسي هو ضعفها الشديد لدرجة العجز سواءً أمام الحكومات الاستبدادية أو أمام التيار الإسلامي المحافظ الطاغي … إن الانقسام اليوم في مجتمعاتنا هو بين ذلك التحالف الطبقي المحافظ الذي تتبادل الصدارة فيه أقسام من البرجوازية الكبيرة و الصغرى و البروليتاريا الرثة و بين الطبقة الوسطى الأكثر "ليبرالية" و اللتان كانتا حتى الأمس في تحالف علني غير مقدس ؛ و كحال الإقطاع المتبرجز الذي حكم بلادنا بعد الاستقلال و الذي وقف عاجزًا أمام صعود البرجوازية الصغيرة و نجاحها أولا في فرض ثقافتها على التداول العام ثم في الاستيلاء على جهاز القمع الأساسي لتطيح بالحكام السابقين قبل أن تبدأ صعودها ، أو انحطاطها ، إلى السلطة ؛ فإن الطبقة الوسطى اليوم مهزومة سلفًا و لنفس الأسباب التي أدت لهزيمة الإقطاع المتبرجز الذي شكل حكومات ما بعد الاستقلال و هي أنها لا تملك أنيابًا تسمح لها بفرض سلطتها أو الدفاع عن حصة ما في السلطة و عدم امتلاكها ثقافة و فكر خاصين بها و عجزها و استنكافها عن محاولة وضع هكذا مشروع ثقافي و فكري واسع عريض و معارض أو تغييري … يعكس هذا في العمق انحطاطًا أعمق يضرب عمق مجتمعاتنا ، من غياب مشاريع مقاومة جدية سوى بعض المحاولات التي تعيش في الهوامش البعيدة بعيدًا عن مركز الصراع و الوعي العام … و أيضًا عجز مزمن في مجتمعاتنا عن الخروج من حالة التبعية و العطالة و الهدوء و الاستقرار و الاعتماد على الآخرين و الدوران حولهم في مراوحة في المكان