أمريكا: حدود الممكن إلى الانبعاث


فهد المضحكي
2024 / 12 / 28 - 12:03     

كغيري‭ ‬من‭ ‬الأمريكيين،‭ ‬أحب‭ ‬بلدي‭ ‬وشعبها‭ ‬الرائع‭ ‬وطاقتها‭ ‬غير‭ ‬المحدودة‭ ‬وإبداعاتها‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬وسحر‭ ‬طبيعتها‭ ‬وأياديها‭ ‬البيضاء‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬والحرية،‭ ‬التي‭ ‬منحتنا‭ ‬لنعبر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عن‭ ‬انفسنا،‭ ‬ولذلك‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نقلق‭ ‬جميعًا،‭ ‬وبدرجة‭ ‬كبيرة،‭ ‬عندما‭ ‬نتأمل‭ ‬بما‭ ‬ألمّ‭ ‬ببلدنا،‭ ‬والأثار‭ ‬السلبية‭ ‬للامبالاة‭ ‬والإهمال‭ ‬اللذان‭ ‬سيطالان‭ ‬أولادنا‭ ‬وأحفادنا،‭ ‬هكذا‭ ‬قال‭ ‬الكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬جيمس‭ ‬غوستاف‭ ‬سيبث‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬نُشر‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬“Orion ‬“‭ ‬الأمريكية،‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬أثني‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬“‭ ‬أمريكا‭ ‬حدود‭ ‬الممكن‭ ‬من‭ ‬الإنحدار‭ ‬إلى‭ ‬الانبعاث‭ ‬“‭ ‬،‭ ‬ونُشر‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الثقافة‭ ‬العالمية‭ ‬الكويتية‭ ‬عدد‭ �‭ ‬،‭ ‬ترجمة‭ ‬محمد‭ ‬مجد‭ ‬الدين‭ ‬باكير‭. ‬
لقد‭ ‬أثار‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬جدلًا‭ ‬مهمًا‭ ‬وسط‭ ‬المثقفين‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الأمريكي‭. ‬ونظرًا‭ ‬لأهميته‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬أن‭ ‬نتوقف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬ناقشها‭ ‬الكاتب‭ ‬وقتذاك‭.‬
كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬قياس‭ ‬ما‭ ‬أصاب‭ ‬أمريكا‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية؟‭ ‬وأين‭ ‬نقف‭ ‬اليوم؟‭ ‬سؤال‭ ‬طرحه‭ ‬غوستاف‭ ‬،‭ ‬ومن‭ ‬وسائل‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬عقد‭ ‬مقارنات‭ ‬بين‭ ‬أمريكا‭ ‬والدول‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الرئيسية‭. ‬وهي‭ ‬مجموعة‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬منظمة‭ ‬التعاون‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والتنمية‭ (‬OECD‭). ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬وفرنسا‭ ‬وألمانيا‭ ‬واليابان‭ ‬والدول‭ ‬الإسكندنافية‭ ‬وكندا‭ ‬وغيرها‭. ‬ونستخلص‭ ‬ما‭ ‬تبين‭ ‬إليه‭ ‬عندما‭ ‬تأمل‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭: ‬
إن‭ ‬من‭ ‬المعيب‭ ‬جدًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬كأمريكيين‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لدينا‭:‬
‭ -‬أعلى‭ ‬معدلات‭ ‬الفقر،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬السكان‭ ‬أم‭ ‬عدد‭ ‬الأطفال‭.‬
‭ -‬أعظم‭ ‬درجات‭ ‬التباين‭ ‬في‭ ‬الدخول‭.‬
‭‬ أدني‭ ‬مستويات‭ ‬الحراك‭ ‬الاجتماعي‭.‬
‭‬ أدني‭ ‬حصيلة‭ ‬في‭ ‬مؤشر‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬للرفاهية‭ ‬المادية‭ ‬للأطفال‭.‬
‭ ‬ أدني‭ ‬حصيلة‭ ‬في‭ ‬مؤشر‭ ‬اللامساواة‭ ‬بين‭ ‬الجنسين‭.‬
‭ ‬ أكبر‭ ‬إنفاق‭ ‬على‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬الإجمالي‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬ألأموال‭ ‬المنفقة‭ ‬تترافق‭ ‬مع‭ ‬أعلى‭ ‬معدلات‭ ‬وفيات‭ ‬الرضع،‭ ‬وأعلى‭ ‬نسب‭ ‬انتشار‭ ‬المشكلات‭ ‬الصحية‭ ‬العقلية،‭ ‬وأعلى‭ ‬معدلات‭ ‬البدانة،‭ ‬وأعلى‭ ‬نسب‭ ‬السكان‭ ‬غير‭ ‬المستفيدين‭ ‬من‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية،‭ ‬وأكبر‭ ‬معدلات‭ ‬استهلاك‭ ‬مضادات‭ ‬الاكتئاب‭ ‬للفرد‭ ‬الواحد،‭ ‬وقصر‭ ‬توقعات‭ ‬الحياة‭ ‬عند‭ ‬الولادة‭.‬
‭ - ‬ثاني‭ ‬أدني‭ ‬حصيلة‭ ‬لأداء‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬وأداء‭ ‬متوسط‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والقراءة‭.‬
‭ ‬ أعلى‭ ‬معدلات‭ ‬القتل‭ ‬العمد‭ ‬
‭ ‬ أعلى‭ ‬أعداد‭ ‬السجناء‭ ‬بالأرقام‭ ‬المطلقة‭ ‬وكنسبة‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬السكان‭.‬
‭ ‬ أعلى‭ ‬معدلات‭ ‬انبعاث‭ ‬غاز‭ ‬الكربون‭ ‬وأكبر‭ ‬استهلاك‭ ‬للمياه‭ ‬للفرد‭ ‬الواحد‭.‬
‭ ‬ أدني‭ ‬حصيلة‭ ‬في‭ ‬مؤشر‭ ‬الأداء‭ ‬البيئي‭ ‬لجامعة‭ ‬بيل‭ ( ‬بعد‭ ‬بلجيكا‭)‬وأعلى‭ ‬الآثار‭ ‬السلبية‭ ‬على‭ ‬البيئة‭ ‬للفرد‭ ‬الواحد‭ ( ‬بعد‭ ‬الدنمارك).‬
‭ ‬ أدني‭ ‬مستويات‭ ‬الإنفاق‭ ‬على‭ ‬التنمية‭ ‬الدولية‭ ‬والمساعدات‭ ‬الإنسانية‭ ‬كنسبة‭ ‬من‭ ‬الدخل‭ ‬القومي‭ ( ‬بعد‭ ‬اليابان‭ ‬وإيطاليا‭).‬
‭ ‬ أكبر‭ ‬إنفاق‭ ‬على‭ ‬التسلح‭ ‬بالأرقام‭ ‬المطلقة‭ ‬وكنسبة‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬الإجمالي‭.‬
‭ ‬ أعلى‭ ‬مبيعات‭ ‬الأسلحة‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬العالم‭.‬
ثم‭ ‬يستطرد‭ ‬قائلُا‭: ‬إن‭ ‬سياسيينا‭ ‬لا‭ ‬يكفون‭ ‬عن‭ ‬استحضار‭ ‬تفوق‭ ‬أمريكا‭ ‬وتفردها‭. ‬صحيح‭ ‬ذلك‭. ‬فكم‭ ‬من‭ ‬البيانات‭ ‬تؤكد‭ ‬أننا‭ ‬الرقم‭ ‬واحد‭ ‬،‭ ‬ولكن‭ ‬بالصفة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نرغب‭ ‬التأكيد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬عليها‭ ‬،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬المؤخرة‭.‬
هذه‭ ‬المضاعفات‭ ‬المؤسفة‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬نتيجة‭ ‬للقوى‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬خارج‭ ‬سيطرتنا‭ ‬،‭ ‬وإنما‭ ‬نتيجة‭ ‬للقرارات‭ ‬السياسية‭ ‬الإرادية‭ ‬،‭ ‬التي‭ ‬أتخذها‭ ‬عبر‭ ‬عقود‭ ‬الحزبان‭ ‬الديمقراطي‭ ‬والجمهوري‭ ‬معًا‭ ‬،‭ ‬واللذان‭ ‬سارا‭ ‬على‭ ‬أولويات‭ ‬غير‭ ‬تعزيز‭ ‬أحوال‭ ‬المجتمع‭ ‬الأمريكي‭ ‬والبيئة‭ ‬التي‭ ‬نعيش‭ ‬فيها‭. ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى‭ ‬أتخذت‭ ‬طريقًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬طريقًا‭ ‬متاحًا‭ ‬أمامنا‭ ‬أيضًا‭.‬
إن‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬نسعي‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها‭ ‬لمستقبل‭ ‬أولادنا‭ ‬وأحفادنا‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬نحلم‭ ‬بها‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬أردنا‭ ‬تغيير‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬الأفضل‭ ‬فسيتعين‭ ‬علينا‭ ‬أولًا‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬افضت‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الكم‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬المتاعب‭.‬
عندما‭ ‬تتهافت‭ ‬المشكلات‭ ‬الكبرى‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬جوانب‭ ‬حياة‭ ‬الأمة،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ناشئة‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬تافهة‭. ‬إننا‭ ‬نواجه‭ ‬مشكلات‭ ‬شاملة‭ ‬بسبب‭ ‬الاختلالات‭ ‬الجذرية‭ ‬في‭ ‬نظامنا‭ ‬الاقتصادي‭ ‬ونظامنا‭ ‬السياسي‭. ‬ويمكننا،‭ ‬بفهم‭ ‬هذه‭ ‬الاختلالات‭ ‬والنواقص‭ ‬أن‭ ‬نتخلص‭ ‬منها‭ ‬ونمضي‭ ‬قدمًا‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬مغاير‭ ‬تمامًا‭.‬
يعتقد‭ ‬أن‭ ‬أمريكا‭ ‬خرجت‭ ‬عن‭ ‬مسارها‭ ‬لسببين‭ ‬أساسيين‭. ‬ذلك‭ ‬لأنها‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬أخفقت‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬الدؤوب‭ ‬على‭ ‬الأساسات‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬البرنامج‭ ‬الجديد‭ ‬والحريات‭ ‬الأربع‭ ‬لفرانكلين‭ ‬روزفلت‭ ‬وقانونه‭ ‬الثاني‭ ‬للحقوق،‭ ‬والإعلان‭ ‬العام‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬إليانور‭ ‬روزفلت‭. ‬وبدلًا‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬أطلقنا‭ ‬العنان‭ ‬لسلالة‭ ‬معدية‭ ‬سريعة‭ ‬الانتشار‭ ‬من‭ ‬رأسمالية‭ ‬الشركات‭ ‬والاستهلاك‭. ‬ويورد‭ ‬بول‭ ‬سامويلسون‭ ‬ووليام‭ ‬نورهاوز‭ ‬في‭ ‬كتابهما‭ ‬ذائع‭ ‬الصيت‭ ‬“‭ ‬علم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الكلي‭ ‬“‭ : ‬إن‭ ‬اقتصادنا‭ ‬هو‭ ‬اقتصاد‭ ‬وحشي‭ ‬لا‭ ‬يرحم‭ ‬“‭. ‬وهو‭ ‬كذلك‭ ‬بالفعل،‭ ‬ففي‭ ‬وحشيته‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭ ‬يحدث‭ ‬كمًا‭ ‬هائلًا‭ ‬من‭ ‬الجراح‭. ‬ومع‭ ‬اشتداد‭ ‬قوته‭ ‬وارتفاع‭ ‬نموه‭ ‬تتعمق‭ ‬تلك‭ ‬الجراح‭ ‬وتزداد‭ ‬عددًا‭.‬
مثل‭ ‬هذا‭ ‬الاقتصاد‭ ‬يطالب،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قوله،‭ ‬بالضوابط‭ ‬والإرشاد‭ ‬توخيًا‭ ‬للمصلحة‭ ‬العامة‭ ‬إذا‭ ‬هذه‭ ‬السيطرة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توفرها‭ ‬إلا‭ ‬الحكومة‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬وعند‭ ‬هذه‭ ‬النقطة،‭ ‬فإن‭ ‬أرباب‭ ‬حياتنا‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وأولئك‭ ‬الذين‭ ‬تتفادوا‭ ‬منها‭ ‬بصورة‭ ‬أكبر‭ ‬مما‭ ‬بستحقون،‭ ‬قد‭ ‬استحوذوا‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬حياتنا‭ ‬السياسية‭. ‬إن‭ ‬الشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬اعتبرت‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬الفاعل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬تضطلع‭ ‬اليوم‭ ‬أيضًا‭ ‬الفاعل‭ ‬السياسي‭ ‬الرئيس‭. ‬والنتيجة‭ ‬هي‭ ‬نظام‭ ‬اقتصادي‭ ‬وسياسي‭ ‬مركب‭ ‬وهو‭ ‬النظام‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬عليه‭ ‬مجتمعنا‭ ‬يستحوذ‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬عظيمة‭ ‬ويبدي‭ ‬جشعًا‭ ‬هائلًا،‭ ‬ويلتمس‭ ‬مصالحه‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الخاصة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اكتراث‭ ‬فعلي‭ ‬بقيم‭ ‬الإنصاف‭ ‬والعدالة‭ ‬والاستدامة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يجدر‭ ‬بالحكومة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬أن‭ ‬توفرها‭ ‬وترعاها‭.‬
لقد‭ ‬تطور‭ ‬اقتصادنا‭ ‬السياسي‭ ‬واشتد‭ ‬عوده‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬مسيرة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬وتنامي‭ ‬دولة‭ ‬الأمن‭ ‬الأمريكي‭. ‬وقد‭ ‬أثرت‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬وظهور‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الأمريكية‭ ‬بشدة‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬الاقتصادي‭ ‬السياسي‭ ‬وتعاظمت‭ ‬أولوية‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬القائمة‭ ‬أصلًا،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬نشوء‭ ‬عقدة‭ ‬العلاقات‭ ‬العسكرية‭ ‬الصناعية‭. ‬واستنزاف‭ ‬موارد‭ ‬والوقت‭ ‬والاهتمام‭ ‬والمال‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الحاجات‭ ‬المحلية‭ ‬والتحديات‭ ‬الدولية‭ ‬الناشئة‭. ‬هذا‭ ‬الانحراف‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬والموارد‭ ‬يتواصل‭ ‬في‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬الإرهاب‭ ‬الدولي‭.‬
وهكذا‭ ‬يبدو‭ ‬واضحًا‭ ‬إن‭ ‬النمو‭ ‬،‭ ‬يخدم‭ ‬مصالح‭ ‬الحكومة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعزيز‭ ‬درجات‭ ‬قبول‭ ‬السياسيين،بينما‭ ‬تدفع‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والقضايا‭ ‬الشائكة‭ ‬الأخرى‭ ‬إلى‭ ‬المؤخرة،‭ ‬وتتولد‭ ‬عوائد‭ ‬أعلى‭ ‬دون‭ ‬رفع‭ ‬معدلات‭ ‬الضريبة‭. ‬إن‭ ‬الحكومة‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬مرافق‭ ‬الاقتصاد‭ ‬لذلك‭ ‬تضطر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تغذي‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬النمو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توفير‭ ‬ما‭ ‬تحتاجه‭ ‬الشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬لمواصلة‭ ‬نموها‭. ‬
وفي‭ ‬خضم‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬واشنطن‭ ‬ممزقة‭ ‬بالتحيز‭ ‬الحزبي،‭ ‬ويعمها‭ ‬الفساد‭ ‬المالي،‭ ‬وهي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬خدمة‭ ‬المصالح‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وحسب‭. ‬إنها‭ ‬تولي‭ ‬اهتمامًا‭ ‬للآفاق‭ ‬قصيرة‭ ‬الأجل‭ ‬لدورات‭ ‬الانتخاب،‭ ‬ويواجهها‭ ‬تيار‭ ‬كريه‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬العام‭ ‬حول‭ ‬القضايا‭ ‬المهمة‭.‬
أخيرًا‭ ‬يقول‭ ‬معلقًا،‭ ‬إن‭ ‬حكومتنا‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬وإظهار‭ ‬الأمة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬العسكرية‭ ( ‬الصورة‭ ‬الخشنة‭) ‬والاقتصادية‭ ( ‬الصورة‭ ‬الناعمة‭). ‬أي‭ ‬عبر‭ ‬آلقوة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والنمو‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وعن‭ ‬طريق‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬عسكري‭ ‬واسع‭ ‬الانتشار‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أرجاء‭ ‬العالم‭. ‬وإليك‭ ‬الحال‭ ‬الذي‭ ‬بلغه‭ ‬نظامنا‭ ‬النقدي‭ ‬والمالي‭ . ‬إننا‭ ‬نعتبر‭ ‬المال‭ ‬كل‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬جيوبنا‭ ‬أو‭ ‬حساباتنا‭ ‬المصرفية،‭ ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬النقد‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬التداول‭ ‬إنما‭ ‬اوجده‭ ‬النظام‭ ‬المصرفي‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬القروض،‭ ‬فإذا‭ ‬سدد‭ ‬الجميع‭ ‬ديونهم،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬هناك،‭ ‬بصعوبة،‭ ‬أي‭ ‬نقود،‭ ‬فالمال‭ ‬هو‭ ‬نظام‭ ‬قوة‭.‬
إن‭ ‬الأمريكيين‭ ‬يفضلون‭ ‬الاهتمام‭ ‬بقضايا‭ ‬النمو‭ ‬والاستهلاك‭ ‬على‭ ‬التصدي‭ ‬للمسائل‭ ‬الحقيقية،‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬وبلدنا‭ ‬أفضل‭ ‬حالًا‭. ‬لقد‭ ‬أشار‭ ‬علماء‭ ‬النفس،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الارتفاع‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬حصة‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬لم‭ ‬يقترن‭ ‬بزيادة‭ ‬في‭ ‬إشباع‭ ‬الحاجات‭ ‬المعيشية،‭ ‬بحيث‭ ‬ارتفعت‭ ‬مستويات‭ ‬عدم‭ ‬الثقة‭ ‬والاكتئاب‭ ‬بصورة‭ ‬هائلة‭. ‬لقد‭ ‬دخلنا‭ ‬عوالم‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬عالم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬البيئي‭ ‬هرمان‭ ‬دالي‭ ‬“‭ ‬النمو‭ ‬غير‭ ‬اقتصادي‭ ‬“‭.‬