أمريكا: حدود الممكن إلى الانبعاث
فهد المضحكي
2024 / 12 / 28 - 12:03
كغيري من الأمريكيين، أحب بلدي وشعبها الرائع وطاقتها غير المحدودة وإبداعاتها في الكثير من المجالات وسحر طبيعتها وأياديها البيضاء على العالم والحرية، التي منحتنا لنعبر من خلالها عن انفسنا، ولذلك ينبغي أن نقلق جميعًا، وبدرجة كبيرة، عندما نتأمل بما ألمّ ببلدنا، والأثار السلبية للامبالاة والإهمال اللذان سيطالان أولادنا وأحفادنا، هكذا قال الكاتب الأمريكي جيمس غوستاف سيبث في مقال نُشر في مجلة “Orion “ الأمريكية، قبل نحو أثني عشر عامًا تحت عنوان “ أمريكا حدود الممكن من الإنحدار إلى الانبعاث “ ، ونُشر أيضًا في مجلة الثقافة العالمية الكويتية عدد ، ترجمة محمد مجد الدين باكير.
لقد أثار هذا الموضوع جدلًا مهمًا وسط المثقفين في المجتمع الأمريكي. ونظرًا لأهميته من المفيد أن نتوقف عند بعض القضايا التي ناقشها الكاتب وقتذاك.
كيف يمكننا قياس ما أصاب أمريكا في العقود القليلة الماضية؟ وأين نقف اليوم؟ سؤال طرحه غوستاف ، ومن وسائل الإجابة عن ذلك عقد مقارنات بين أمريكا والدول الأخرى في المجالات الرئيسية. وهي مجموعة الدول الكبرى الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). ومن بينها المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان والدول الإسكندنافية وكندا وغيرها. ونستخلص ما تبين إليه عندما تأمل في أحوال تلك الدول:
إن من المعيب جدًا بالنسبة لنا كأمريكيين أن يكون لدينا:
-أعلى معدلات الفقر، سواء على مستوى السكان أم عدد الأطفال.
-أعظم درجات التباين في الدخول.
أدني مستويات الحراك الاجتماعي.
أدني حصيلة في مؤشر الأمم المتحدة للرفاهية المادية للأطفال.
أدني حصيلة في مؤشر اللامساواة بين الجنسين.
أكبر إنفاق على الرعاية الصحية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، فإن كل ألأموال المنفقة تترافق مع أعلى معدلات وفيات الرضع، وأعلى نسب انتشار المشكلات الصحية العقلية، وأعلى معدلات البدانة، وأعلى نسب السكان غير المستفيدين من الرعاية الصحية، وأكبر معدلات استهلاك مضادات الاكتئاب للفرد الواحد، وقصر توقعات الحياة عند الولادة.
- ثاني أدني حصيلة لأداء الطلاب في الرياضيات وأداء متوسط في العلوم والقراءة.
أعلى معدلات القتل العمد
أعلى أعداد السجناء بالأرقام المطلقة وكنسبة إلى عدد السكان.
أعلى معدلات انبعاث غاز الكربون وأكبر استهلاك للمياه للفرد الواحد.
أدني حصيلة في مؤشر الأداء البيئي لجامعة بيل ( بعد بلجيكا)وأعلى الآثار السلبية على البيئة للفرد الواحد ( بعد الدنمارك).
أدني مستويات الإنفاق على التنمية الدولية والمساعدات الإنسانية كنسبة من الدخل القومي ( بعد اليابان وإيطاليا).
أكبر إنفاق على التسلح بالأرقام المطلقة وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
أعلى مبيعات الأسلحة بين دول العالم.
ثم يستطرد قائلُا: إن سياسيينا لا يكفون عن استحضار تفوق أمريكا وتفردها. صحيح ذلك. فكم من البيانات تؤكد أننا الرقم واحد ، ولكن بالصفة التي لا نرغب التأكيد في أن نكون عليها ، ألا وهي الأول في المؤخرة.
هذه المضاعفات المؤسفة ليست فقط نتيجة للقوى الاقتصادية والتكنولوجية ، التي هي خارج سيطرتنا ، وإنما نتيجة للقرارات السياسية الإرادية ، التي أتخذها عبر عقود الحزبان الديمقراطي والجمهوري معًا ، واللذان سارا على أولويات غير تعزيز أحوال المجتمع الأمريكي والبيئة التي نعيش فيها. ومن الواضح أن العديد من الدول الأخرى أتخذت طريقًا مختلفًا طريقًا متاحًا أمامنا أيضًا.
إن أمريكا التي نسعي إلى تحقيقها لمستقبل أولادنا وأحفادنا هي ليست أمريكا التي نحلم بها. وإذا ما أردنا تغيير الأمور إلى الأفضل فسيتعين علينا أولًا أن نفهم القوى التي افضت بنا إلى هذا الكم الهائل من المتاعب.
عندما تتهافت المشكلات الكبرى من مختلف جوانب حياة الأمة، فإنها لا يمكن أن تكون ناشئة عن أسباب تافهة. إننا نواجه مشكلات شاملة بسبب الاختلالات الجذرية في نظامنا الاقتصادي ونظامنا السياسي. ويمكننا، بفهم هذه الاختلالات والنواقص أن نتخلص منها ونمضي قدمًا في اتجاه مغاير تمامًا.
يعتقد أن أمريكا خرجت عن مسارها لسببين أساسيين. ذلك لأنها في العقود الأخيرة أخفقت في البناء الدؤوب على الأساسات التي وضعها البرنامج الجديد والحريات الأربع لفرانكلين روزفلت وقانونه الثاني للحقوق، والإعلان العام لحقوق الإنسان الذي وضعه إليانور روزفلت. وبدلًا من ذلك، أطلقنا العنان لسلالة معدية سريعة الانتشار من رأسمالية الشركات والاستهلاك. ويورد بول سامويلسون ووليام نورهاوز في كتابهما ذائع الصيت “ علم الاقتصاد الكلي “ : إن اقتصادنا هو اقتصاد وحشي لا يرحم “. وهو كذلك بالفعل، ففي وحشيته في الداخل والخارج يحدث كمًا هائلًا من الجراح. ومع اشتداد قوته وارتفاع نموه تتعمق تلك الجراح وتزداد عددًا.
مثل هذا الاقتصاد يطالب، على حد قوله، بالضوابط والإرشاد توخيًا للمصلحة العامة إذا هذه السيطرة لا يمكن أن توفرها إلا الحكومة. ومع ذلك، وعند هذه النقطة، فإن أرباب حياتنا الاقتصادية، وأولئك الذين تتفادوا منها بصورة أكبر مما بستحقون، قد استحوذوا أيضًا على قطاعات واسعة من حياتنا السياسية. إن الشركات الكبرى التي اعتبرت منذ زمن طويل الفاعل الاقتصادي الرئيس في بلادنا تضطلع اليوم أيضًا الفاعل السياسي الرئيس. والنتيجة هي نظام اقتصادي وسياسي مركب وهو النظام العام الذي يقوم عليه مجتمعنا يستحوذ على قوة عظيمة ويبدي جشعًا هائلًا، ويلتمس مصالحه الاقتصادية الخاصة من دون اكتراث فعلي بقيم الإنصاف والعدالة والاستدامة التي كان يجدر بالحكومة الديمقراطية أن توفرها وترعاها.
لقد تطور اقتصادنا السياسي واشتد عوده بالتوازي مع مسيرة الحرب الباردة وتنامي دولة الأمن الأمريكي. وقد أثرت الحرب الباردة وظهور الإمبراطورية الأمريكية بشدة في طبيعة النظام الاقتصادي السياسي وتعاظمت أولوية النمو الاقتصادي القائمة أصلًا، مما أدى إلى نشوء عقدة العلاقات العسكرية الصناعية. واستنزاف موارد والوقت والاهتمام والمال بعيدًا عن الحاجات المحلية والتحديات الدولية الناشئة. هذا الانحراف في الاهتمام والموارد يتواصل في ردة فعل على الإرهاب الدولي.
وهكذا يبدو واضحًا إن النمو ، يخدم مصالح الحكومة من خلال تعزيز درجات قبول السياسيين،بينما تدفع العدالة الاجتماعية والقضايا الشائكة الأخرى إلى المؤخرة، وتتولد عوائد أعلى دون رفع معدلات الضريبة. إن الحكومة في أمريكا لا تملك كثيرًا من مرافق الاقتصاد لذلك تضطر إلى أن تغذي التركيز على النمو من خلال توفير ما تحتاجه الشركات الكبرى لمواصلة نموها.
وفي خضم ذلك، فإن واشنطن ممزقة بالتحيز الحزبي، ويعمها الفساد المالي، وهي تقوم على خدمة المصالح الاقتصادية وحسب. إنها تولي اهتمامًا للآفاق قصيرة الأجل لدورات الانتخاب، ويواجهها تيار كريه من الجدل العام حول القضايا المهمة.
أخيرًا يقول معلقًا، إن حكومتنا تسعى إلى تعزيز وإظهار الأمة الأمريكية، في صورتها العسكرية ( الصورة الخشنة) والاقتصادية ( الصورة الناعمة). أي عبر آلقوة الاقتصادية والنمو من ناحية، وعن طريق الحفاظ على وجود عسكري واسع الانتشار في مختلف أرجاء العالم. وإليك الحال الذي بلغه نظامنا النقدي والمالي . إننا نعتبر المال كل النقد في جيوبنا أو حساباتنا المصرفية، لكن الحقيقة أن كل النقد الموجود في التداول إنما اوجده النظام المصرفي عن طريق القروض، فإذا سدد الجميع ديونهم، لن يكون هناك، بصعوبة، أي نقود، فالمال هو نظام قوة.
إن الأمريكيين يفضلون الاهتمام بقضايا النمو والاستهلاك على التصدي للمسائل الحقيقية، التي تقوم على عمل ما يجعلنا وبلدنا أفضل حالًا. لقد أشار علماء النفس، على سبيل المثال، إلى أن الارتفاع الحاد في حصة الفرد من الناتج الاقتصادي في الولايات المتحدة في العقود الأخيرة لم يقترن بزيادة في إشباع الحاجات المعيشية، بحيث ارتفعت مستويات عدم الثقة والاكتئاب بصورة هائلة. لقد دخلنا عوالم يطلق عليها عالم الاقتصاد البيئي هرمان دالي “ النمو غير اقتصادي “.