عن الطوفان وأشياء أخرى (22)


محمود الصباغ
2024 / 12 / 20 - 16:07     

- مغامرة الصراع مع إسرائيل
تُظهر وقائع الصراع مع إسرائيل، وبالأخص في أعقاب كل جولة حرب تليها "اتفاقات" لوقف إطلاق النار، أن الفلسطينيين هم الوحيدون -عملياً- الذين يتحملون مخاطرة (أو مغامرة إن شئت) الاستمرار في مقاومة الاحتلال، رغم ما تنطوي عليه هذه المخاطرة من تكلفة عالية. الأمر الذي يمثل تحدياَ، بل معضلة، للأطراف والقوى الفلسطينية على صعيد العمل المقاوم. ويشبه هذا ما واجهته -وسوف تواجهه-، حركات التحرر في تاريخ مقاومة الاستعمار (في مقدمة هذه التحديات -بالطبع- القول بعدم القدرة على تحقيق منجز حقيقي -مهما بلغ حجم التضحيات والبطولات- ما لم تتوافر رؤية سياسية شاملة وبرنامج عمل واقعي متكامل؛ يأخذ في حسبانه واقعية الفعل المقاوم وإمكانات الحركة وقدرتها على تنفيذ أهدافها ضمن ما هو متاح على أرض الواقع).
ما زال الفلسطيني يشكل مقلوباً لـ "الإسرائيلي" بمعانٍ مختلفة بما في ذلك المعنى الوجودي. لذا، لن يقبل العقل الإسرائيلي بوجوده مهما كانت المسوغات والضغوطات. وما يقدمه من "تنازلات مؤلمة" في ساحات ومواقع أخرى؛ يحظر عليه -بصفته الصهيونية هذه المرة – تقديمه للفلسطينيين.
إن المراقب للمشهد لا يمكنه أن يكون متفائلاً فتوالي الهزائم والنكسات عكست أو حتى خلقت تفاعلاً سلبياً بين الفلسطينيين ومحيطهم العربي العضوي؛ وأوجدت لدى البعض منهم شعوراً يدفعهم للاعتماد على أنفسهم لمواجهة هذه الإسرائيل بالوسائل المتاحة أو المتوفرة (نستعيد هنا انتفاضة الحجارة؛ حيث بدا للكثير -في لحظة ما قبل اندلاعها في مخيم جباليا- أن روح المقاومة خفتت بسبب الرهبة والوهم: الرهبة من بطش العدو وغطرسته؛ والوهم بمناخات تسويات قادمة من عاصمة عربية أو أجنبية)
-المستعمِر ومعضلة الوغد والأحمق
تظهير العنف الإسرائيلي ضد "الآخر الفلسطيني" بصفته عدواً يستوجب نزع الصورة الإنسانية عنه واعتباره "موضوع" وجودي مؤقت فهو، في الخيال السياسي والاجتماعي والثقافي الإسرائيلي، "ليس حياً وليس ميتاً" إنه طيف... مجرد طيف متناهي. وعلى هذا لا تشكل وحشية الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطيني أي صدمة من أي نوع في وعي الإسرائيلي؛ لذلك لا يستطيع أن [يصفن شي سيعة] عند معاناة الفلسطينين والتضامن معهم بصفتهم ضحية، وبالتالي تأسيس حكم أخلاقي، بل نرى عكس ذلك حين يشجع المجتمع بأغلبيته الساحقة أي حرب ضد الفلسطينيين، في أي وقت وفي أي مكان، سواء كانت مبررة أم لا.
في واقع الأمر؛ يواجه مجتمع المستعمِرين في فلسطين -ومن يمثلهم- ذات المعضلة التقليدية التي واجهها المستعمِر في أماكن أخرى؛ أي الحفاظ على الهيمنة العسكرية والسياسية على شعب آخر، مع الاستمرار في تبرير هذه الهيمنة. إذ يمكن -على عدة مستويات- تحليل المنطق وراء هذه المحاولة بنوع من إثبات الذات بطريقة منصفة! أمام المستعمَر الأضعف، في واقع غير متكافئ يفتقر إلى شروط المنازلة المتساوية للفرق الهائل بين الإمكانات والموارد على الأصعدة كافة.
لا ينفك المستعمِر عن التفكير والتصرف بلغة استعراض القوة المفرطة لتأبيد صورته من مركز "المنتصر"، رغم صعوبة ترجمة النصر العسكري إلى أهداف سياسية أو استراتيجية محققة بالضرورة.
كيف له إثبات نفسه أمام من هو أضعف منه بما لا يقاس؟ وما هي المكاسب-في الحقيقة- فيما لو فعل ذلك؛ سوى وضع نفسه في موقع الخاسر حتماً، لأنه سيتوجب عليه قتل خصمه بفارق القوة بينهما؛ وعندها سيتحول إلى وغد (وهذا أبسط توصيف وأكثره أدباً) أو يدع خصمه يقتله فيفشل في تحقيق أهدافه؛ ليتحول إلى أحمق (وهذا أيضاً أبسط توصيف وأكثره أدباً). وكلا المسارين لم يكل له نصراً سياسياً ولا استقراراً أمنياً، بل على العكس من ذلك سوف يسهم أحدهما أو كليهما في تعميق التناقض النفسي والأخلاقي (تعكسه بعض الحالات الخاصة داخل بيئته)، فالقوة العسكرية ليست هي العامل الوحيد الذي يحدد النجاح أو الإخفاق في تاريخ الاستعمار العالمي. فعند استخدام فائض القوة ضد من هو أضعف والعجز بذات الوقت عن تحقيق الأهداف السياسية، سيظل المستعمِر يدور في دوامة العجز؛ وهي حالة مألوفة تقود إلى تصدعات في بنية الاستعمار (وإن بدى ظاهريا أكثر قوة وبطش) بسبب تفاقم ضغوط وتوترات داخلية سياسية وعسكرية ومجتمعية وفردية نفسية وأخلاقية وفقدان الهدف السياسي لوجوده وتآكل المعيار الأخلاقي لبنيته الاجتماعية؛ مما سيؤدي في النهاية إلى تهديد البنية الاستعمارية برمتها.
هذا هو مأزق الإسرائيلي في مواجهة الفلسطيني سواء من كان منهم يقاتل في غزة أو جباليا أو طولكرم أو على حاجز قلنديا أو من يقف وسط بلدة حوارة أو نابلس أو القدس أو من يعمل مقاول أمني بالباطن مع الموساد أو الشاباك...
وطالما بقي الشعب الخاضع للاحتلال يرفض عمداً الخروج من التاريخ العالمي؛ لن تستطيع القوة العسكرية، مهما عظمت على إزالة الحقيقة السياسية والاجتماعية العميقة التي ترى في الاحتلال حدث طارئ على التاريخ.. ناهيك عن عدم مشروعيته إزاء أي مشروعية طبيعية وإنسانية أخرى.
ولكيلا نسرح بخيالنا بعيداً، لا أعتبرُ هذ القول أو تلك النتيجة رهاناً من أي نوع، بقدر ما هو / هي ملاحظة وقائع نراها أمامنا كل يوم، وهذا لا يعني أن الجيش الإسرائيلي على وشك الانهيار أو هو أسوء من غيره قياساً بتجارب استعمارية عرفتها قوى الاحتلال والاستعمار في مناطق أخرى وأزمنة سابقة تبدو كأنها حصلت لحسابات أكبر بكثير من مقاربة معضلة الوغد والأحمق، رغم بقاء هذه المقاربة قائمة بدرجة ما؛ بدلالتها العملية كونها انعكاساً لضغوط واقعية.
وباعتباري في عمر زمني يضعني- أو ربما هكذا أراني- ضمن أبناء الجيل الأخير أو ما قبل الأخير الذي شهد وعايش وأسهم بطريقة ما في انهيار حلم تخليص فلسطين ببعدها القومي العروبي من استعمارها الصهيوني؛ فلعل ما ورد في هذه الخاتمة درسٌ لأجيال آتية من أبناء منطقتنا أو لأي تجارب استعمارية مشابهة.
إن قدرة الشعوب على الصمود ليست وهماً أو تفكيراً مرغوباً فيه، بل هي جوهر التحولات التاريخية الكبرى. ومهما بدا لنا الاحتلال قوياً وصلباً في المنظور الحالي، فثمة ضغوط داخلية وخارجية ستكون عوامل مؤثرة في تحولات الصراع.