المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (الحلقة الثامنة)


مسعد عربيد
2024 / 12 / 4 - 10:34     

(4)
الفهم الطبقي للمشروع الاستيطاني الصهيوني

إن من يدرس الصهيونية أو غيرها من الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية، على أنها جاءت بمحض الصدفة، أو معزولة عن سياق بيئتها وزمنها، يرتكب خطأً في فهم هذه الحركة ومشروعها الاستيطاني. ذلك أن هذا النهج المثالي ينظر إلى الفكر والمجتمع والسياسة بوصفها ظواهر مبتورة عن الواقع الاجتماعي وتناقضاته، ومنفصلة عن التركيبة الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية التي أنتجتها.

وعليه، لا بد من فهم الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، انطلاقاً من: (1) الربط بين " الإيديولوجي" و"السياسي" في الصهيونية وجدلية العلاقة بينهما. (2) ربط الصهيونية ومشروعها بالنظام الرأسمالي الذي دخل آنذاك مرحلة الإمبريالية، ومعها الصهيونية مشروعًا صهيونيًا – إمبرياليًا. وهو العصر الذي تبلورت فيه الصهيونية، فكرةً وحركةً سياسية، في تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية عام 1897.

▪️▪️▪️

يعبِّر هذا التزامن بين تأسيس الحركة الصهيونية ودخول الرأسمالية مرحلة الإمبريالية، عن المصالح الطبقية لرأس المال. فقد جاءت المشاريع الاستعمارية الاستيطانية البيضاء سعياً وراء التوسع الاستعماري نحو الأسواق الخارجية ومصادر المواد الخام في العالم. وقد تجلى تلاقي هذه المصالح والأهداف على نحو لا يمكن إخفاؤه، لا في السياسة والاقتصاد، ولا في الثقافة الإمبريالية حيال البلدان المستعمَرة. وقد أكدت المستوطنات الأوروبية البيضاء (الولايات المتحدة، كندا، نيوزيلاند، أستراليا، جنوب أفريقيا، والكيان الصهيوني في فلسطين)، أنها جاءت لخدمة مصالح الطبقة الحاكمة في البدان الرأسمالية - الإمبريالية، وأن الصراع الطبقي في مستوياته القومية والدولية (بين الإمبرياليات المتعددة والمتنافسة)، يظل الجوهر والمحدد الرئيسي لاتجاه مسار التاريخ البشري وتطور المجتمعات ونضال الشعوب نحو التحرير. ومن هنا نفهم تواطؤَ الغرب الإمبريالي (الأوروبي والأميركي) ومشاركته المباشرة في إدارة حرب الإبادة على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة.

خلاصة القول، إن التحليل الطبقي للاستيطان الصهيوني يرسي الأساس لفهم: (أ) المصالح المادية والطبقية (الاجتماعية والاقتصادية) للقوى الصهيونية (الأشكناز) المهيمنة على السلطة في الكيان الصهيوني، و(ب) ارتباط مصالحهم بالسياسات والمخططات الرأسمالية - الإمبريالية في بلادنا وفي العالم.

فماذا يعني تغييب البعد الطبقي؟

يُفضي بنا تغييب البعد الطبقي للاستيطان الصهيوني في فلسطين إلى إشكالية في النضال الفلسطيني لمجابهة هذا الاستيطان. فهذا التغييب يعني تغييب النقيض الطبقي؛ وتأكيد المضمون الطبقي لنضال الشعوب يعني وجود "النقيض" الطبقي الذي يستوجب مجابهته.
وهكذا فإن اقتصار مجابهة الاستيطان الصهيوني على نضالٍ للتحرير الوطني دون البعد الطبقي؛ إنما هو تعبير عن فهم منقوص لطبيعة هذا الاستيطان، ومن ثَمَّ للنضال الوطني الفلسطيني الذي يواجه من دون البعد الطبقي.

نخلص إلى أن الفهم الطبقي للمشروع الاستيطاني الصهيوني:

أ) يضع نضالنا في سياقه التاريخي الصحيح بوصفه نضالًا تحريريًا وطنيًا وطبقيًا في آن واحد؛
ب) ويعني ايضًا أن العدو الإمبريالي، الرأسمالي - الطبقي، هو العدو الرئيسي وأن الكيان أداة له؛
ج) وأن صراعنا مع هذا العدو صراع تناحري.

وهذا ما أكّده المسار التاريخي لنضال الشعب الفلسطيني لأكثر من 142 سنة على طبيعة الصراع مع المشروع الإمبريالي - الصهيوني في بلادنا وترابط النضال التحريري - الطبقي المناهض لهذا العدو.

تشويه الوعي الجمعي

يقودنا هذا التحليل إلى إدراك ما تسبب به تغييب البعد الطبقي لصراعنا مع المشروع الصهيوني – الإمبريالي. لقد أدى ذلك الى تشويه الوعي الشعبي الجمعي، وحرفه عن الفهم الإستراتيجي لمعسكر الأعداء ومكوناته، وإلى تقزيم صراعنا تدريجياً وصولًا إلى ما أسموه “الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني"، و"الحرب بين إسرائيل وحماس"، كما هو الحال الآن في الحرب الدائرة على قطاع غزة منذ تشرين الأول 2023.

لذلك ينبغي أن نربط الصهيونية (بخلفيتها الإيديولوجية ومصالحها الطبقية والسياسية) بالقوى الإمبريالية الغربية، لأن تغييب هذه الأبعاد يؤدي إلى:

أ) تشويه الوعي الشعبي العربي فيما يتعلق بطبيعة الصراع المحتدم في بلادنا، بما هو صراع طبقي وطني تحرري في مواجهة الاحتلال الصهيوني والإمبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة؛
ب) حرف نضال شعبنا عن بوصلته، وحقه في مقاومة الاحتلال والهيمنة الإمبريالية على بلادنا وثرواتها.
▪️▪️▪️
خلاصة

في استخلاص العبر، يهمنا أن نؤكد ضرورة التمييز بين قراءة الحدث السياسي وتجلياته، من جهة، والقوى التي تقف وراءه وتكون أحيانًا خفية، من جهة أخرى. وهو ما يعيننا على فهم: لماذا استفاق كثيرون في القوى السياسية والاجتماعية والثقافية في بلادنا (إذا افترضنا حسن النية) لإدراك حقيقة الصراع الدائر في وطننا، بعد شهور من "طوفان الأقصى" وعقود من نضال شعبنا؛ وهي أن القوى الإمبريالية الغربية بقيادة الإمبريالية الأميركية، هي مَن يشن حرب الإبادة على شعبنا مستخدمة الكيان الصهيوني أداةً لها. وكذلك إدراك دور الأنظمة العربية العميلة والتابعة للإمبريالية ومساهمتها في هذه الحرب وفي الصراع بمجمله.

لقد أهدرنا عقودًا من تاريخنا الحديث في الترويج لفهم هذا الصراع على أنه مقصور على الكيان الصهيوني دون القوى الرئيسية الشريكة وصاحبة الأمر والنهي. وهو ما يعني عزله عن معسكر الثورة المضادة الذي أسماه عادل سماره العدو الثلاثي: (أ) الإمبريالية والرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، و(ب) الكيان الصهيوني، و(ج) القوى والأنظمة العربية الرجعية العميلة المرتبطة بها والتابعة لها.