المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (الحلقة السادسة)
مسعد عربيد
2024 / 11 / 17 - 08:46
الصهيونية المسيحية في خدمة الكيان الصهيوني والغرب الإمبريالي
كان ذهابنا الى تقصِّي جذور الصهيونية المسيحية وعلاقتها بالصهيونية اليهودية، بقصد إلقاء الضوء على تلاقي الأبعاد الدينية واللاهوتية، من ناحية، وتأثير هذا التلاقي في البيئة السياسية والثقافية في مجتمعات الغرب الرأسمالي - الإمبريالي. ولكن هذا التلاقي لا يفي بشرح وفهم علاقة التحالف العضوي بين الكيان والغرب الإمبريالي دون حسابات المصالح السياسية والإستراتيجية المشتركة بينهما.
وقبل الإجابة عن السؤال الخاص بهذه المصالح، يحسن بنا عرض بعض الاستنتاجات السريعة لهذه العلاقة:
أ) إن الصهيونية المسيحية استندت إلى تعاليم الحركات البروتستانتية الرئيسية المستقاة من "العهد القديم"، وأهمها: اليهود هم شعب الله المختار، وضرورة عودتهم الى "أرضهم الموعودة" في فلسطين وفقاً لتعاليم التوراة من أجل إقامة "كيانهم اليهودي القومي"، تمهيدًا للعودة الثانية للمسيح المنتظر.
ب) أصبحت هذه التعاليم الركائز الأساسية للعقيدة الدينية الإيمانية لمعتنقي المسيحية البروتستانتية.
ج) خلقت حركة الإصلاح البروتستانتي في الغرب البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية لتقبُّل فكرة عودة اليهود إلى فلسطين ونشرها، وتبرير استيطان فلسطين واقتلاع أهلها من وطنهم، وجعلها من أركان عقيدتهم الدينية والإيمانية.
د) جدير بالذكر أن هذه التطورات كانت قد اختمرت واكتملت في الخطاب السياسي والاجتماعي والفكري الأوروبي قبل قرون من تأسيس الحركة الصهيونية اليهودية (ثيودور هرتسل عام 1897)، وتأسيس الكيان الاستيطاني الصهيوني في فلسطين (1948).
ه) أسهمت العقيدة الدينية البروتستانتية بربط الأهداف الصهيونية مع المصالح والمخططات الإمبريالية الغربية وتلاقيها مع المشروع الصهيوني. بالإضافة الى ذلك، تميزت الحركة الصهيونية بالمثابرة والبراغماتية في التعامل مع الظروف والأوضاع المحلية والدولية في سبيل تحقيق غايتها النهائية: استيطان فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني على أرضها.
كل هذا أسهم في بلورة الدعم الغربي للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين ومضاعفته ورعايته، وتبنِّي دولة الاحتلال الصهيوني كيانًا وظيفيًا، وقاعدة للإمبريالية الرأسمالية الغربية في الوطن العربي والمنطقة بأسرها.
مصالح الغرب في الاستيطان الصهيوني
يرى الغرب الإمبريالي نفسه، الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، "كتلة" فكرية وإيديولوجية وثقافية واحدة، وينظر إلى الكيان الصهيوني من حيث أيديولوجيته ومشروعه الاستيطاني امتدادًا لهذه الكتلة في قلب الوطن العربي. وكثيراً ما يتجلى هذا في تكرار الحديث عن "القيم المشتركة" التي يتبادلها الغرب والكيان الصهيوني، وهو ما كان واضحاً منذ عقود ولكنه أصبح أكثر سطوعاً في الحرب الإبادية على شعبنا في غزة والضفة الغربية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وهذه القيم المشتركة كانت ولا تزال أدوات إمبريالية تستخدمها الرأسمالية الغربية في تحقيق مصالحها وحمايتها: وهي قيم الاستعمار الاستيطاني والعنصرية وتفوُّق العرق الأبيض، قيم القتل والتدمير والإبادة الجماعية. دَعكَ من المفردات الأنيقة ولكن المضللة للخطاب الغربي التي تغلف حقيقة هذه القيم وجوهرها. كيف لا، وهذا الغرب نفسه ينحدر من الصهيونية المسيحية، كما قدمنا، وأسهم على نحو حاسم في نجاح المشروع الصهيوني في جميع مراحله، قبل قيام الكيان الصهيوني وبعده وحتى يومنا هذا.
ولكن ما يهمنا هنا هو ملاحظة أن تلاقي الإيديولوجيات والقيم المشتركة لا يكفي لتفسير الدعم الغربي المطلق للكيان الصهيوني، دون حسابات المصالح السياسية والإستراتيجية المشتركة بين الكيان والغرب الإمبريالي. ويرى هذا الغرب، من غير شك، أن في هذه الكلفة الهائلة استثمارًا إستراتيجيًا ومردودًا يظهر أثره في تحقيق مصالحه. وعليه، لا بد من فهم هذه العلاقة بلغة المصالح وحساباتها.
فما هي ما هي مصالح الغرب؟ وأي مصلحة لهذا الغرب في دعم وحماية المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين؟
قد لا تكون هناك ضرورة للمزيد من شرح هذه المصالح الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية للرأسمالية الإمبريالية في خلق الكيان الصهيوني وتزويده بالحماية المطلقة ووسائل البقاء المختلفة. فهي، باختصار شديد، مصالح ترتكز أساساً على: (1) الإبقاء على تفتيت الوطن العربي وتجزئته وإضعافه، (2) ضمان الهيمنة على ثرواته ومقدراته، و(3) حماية أمن الكيان الصهيوني ووجوده.
ولكن السؤال الذي نحن بصدده في سياق الحديث عن الاستيطان، ما هي مصالح القوى الإمبريالية الغربية، ولماذا تتمسّك بالكيان الصهيوني نموذجًا للاستيطان الإحلالي؟
هذه المصالح والعوامل متعددة، منها:
أ) تثبيت إيديولوجيا ومشروعية نموذج الاستيطان الإحلالي، والقضاء على فكرة إمكانية تفكيك المستوطنات أو تغيير الوضع القائم فيها. فهذا النموذج هو ما قامت عليه الولايات المتّحدة الأميركية وكندا وأستراليا، والكيان الصهيوني ذاته. وعليه، فإن حرب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني التي يشنها الغرب الإمبريالي وأداته (الكيان الصهيوني) هي، في الجوهر، حرب للدفاع عن الغرب نفسه أيضاً وليس عن الكيان وحسب. بعبارة أخرى، فإن الكيان الصهيوني يقوم بوظيفة العميل/الوكيل/ الأداة للإمبريالية الأمريكية والأوروبية من ورائها، لتثبيت فكرة ومشروع الاستيطان، وضمان مصالحها وهيمنتها الكونية.
ب) يعتقد كثير من المحللين أن الغرب يخشى ارتداد المسألة اليهودية إلى داخل الغرب ويعمل على تفاديه، بعد النجاح ولو الجزئي في ترحيل مئات الآلاف من اليهود ليستوطنوا فلسطين وإقامة "دولتهم اليهودية".