جيل دولوز مُمارسٌ مُشاكسٌ للفلسفة
محمد الهلالي
2024 / 10 / 23 - 02:03
درّس جيل دولوز الفلسفة في الثانوي طيلة تسع سنوات. وكان أول كتاب نشره هو كتابه عن دافيد هيوم (Empirisme et subjectivité). وتعتبر كتبُه، التي تلت كتبَه عن تاريخ الفلسفة، غير نمطية. اهتم بفلاسفة لم يكونوا مسيطرين في الجامعات الفرنسية، فلاسفة لم يصبحوا موضة فكرية بعد مثل هيوم ونيتشه وسبينوزا. خلافا للفلاسفة المهيمنين مثل هيجل وهوسرل وهايدغر.
كما اهتم بالسينما، والفن من خلال فرنسيس باكون، والأدب من خلال مارسيل بروست وفرانز كافكا وساشر مازوخ. ويمكن نعته بدون مبالغة بأنه "فيلسوف فنان". فالفلسفة في نظره ليست هي التحليل والتأمل، وإنما هي الإبداع من خلال إبداع المفاهيم. ناصر التعدد والتفرد ضد الوحدة، والحدث ضد المقولة العامة.
كتمن أول ثمرة اللقاء بين دولوز وغاتاري هي كتابهما "الثوري فلسفيا" والذي هو ( L’anti-Œdipe) في جزئه الأول ( Capitalisme et schizophrénie) والذي استعملا في كتابته كلمات عادية، كما استعملا السجال والهجوم على تصورات التحليل النفسي الفرويدي وخصوصا المثلث الأوديبي. كما أن الجزء الثاني من كتابهما (L’anti-Œdipe) والذي هو ( Mille plateaux) سيكون أكثر جذرية في تناوله لمفهوم المعرفة ومفهوم الكتاب والكتابة. فكتابهما هذا كتباه كجذمور، أي كنص غير مركز على أي مركز، نص متعدد الابعاد، دائري الشكل. كتاب عبارة عن نجود مستقلة عن بعضها البعض ومتداخلة فيما بينها في نفس الوقت. يمكن قراءة الكتاب-الجذمور من اي نجد من نجوده.
وإذا كانت الفلسفة هي أساسا إبداع للمفاهيم، فقد زخرت فلسفة دولوز وغاتاري بالمفاهيم التي أبدعاها مثل: التحليل الفصامي (Schizoanalyse)، واللازمة (Ritournelle)، والآلة الراغبة (Machine désirante)، وخط الانفلات (Ligne de fuite)، والجذمور (Rhizome)، وآلة الحرب (Machine de guerre)، والتوليف ( agencement)، والجسم بلا أعضاء (corps sans organes)، والصيرورة الحيوانية ( devenir animal)، والترحّل (déterritorialisation)...
لا توجه الفلسفة للفلاسفة فقط، وإنما توجه لغير الفلاسفة أيضا، لأنها في حاجة لهؤلاء لكي توجد. فبقدر ما هي علاقة أساسية مع الفلاسفة هي علاقة أساسية مع غير الفلاسفة. الفلسفة بحاجة لقراءة غير الفلاسفة للفلسفة. هي بحاجة لقراءة لا تكون تحليلا، تحتاج لقراءة ترتكز على علاقة أساسها "الشدة والكثافة" مع النص الفلسفي، وعلى التفاعل معه. فالعلاقة بالنص الفلسفي لا تقوم على الشرح والفهم والتأويل: وإنما تقوم على التفاعل معه أولا. لا تكون الفلسفة حسب دولوز مطيعة لأي كان ولأية جهة كانت. فالحرية تتدفق في شرايينها. وإصراره على تحرير الفلسفة جعل منه "مؤرخا مشاكسا للفلسفة".
اعتبر دولوز نفسه من الجيل الذي اغتاله تاريخ الفلسفة. والسبب هو أن تاريخ الفلسفة حط بثقله على أفراد هذا الجيل وقمعهم وتسبب لهم في "عقدة اوديب فلسفية". فتاريخ الفلسفة اشتغل كسلطة قمعية، حيث لا يمكن لأحد أن يتفلسف دون أن يطلع على أفلاطون وديكارت وكانط وهايدغر... أدى تاريخ الفلسفة إلى تشكل "مدرسة فلسفية" تمارس الترويع على كل من يريد ممارسة التفلسف. والنتيجة هي أن تاريخ الفلسفة القمعي هذا منع الناس من التفكير عوض أن يحررهم من القيود التي تقمع التفكير.
واجه دولوز هذه السلطة القمعية بممارسة مختلفة لتاريخ الفلسفة تهتم بفلاسفة هُمشوا من طرف المؤسسات التعليمية: مثل لوكريتيوس وهيوم وبرغسون ونيتشه. وتم اختيار هؤلاء لأن بينهم قاسم مشترك هو: نقد كل ما هو سلبي، تبني ثقافة الفرح، كراهية الحديث عن قوى وحقائق وماهيات باطنية خفية، الاهتمام بالقوى والعلاقات البرانية، إدانة السلطة...
مارس دولوز تاريخ الفلسفة من خلال عملية مزدوجة: احترام الفيلسوف موضوع الدراسة إلى أقصى حد، واحترامه في نفس الوقت إلى أقصى حد. كانت قراءة دولوز لكل فيلسوف تجبره على أن يقول ما يضعه دولوز على لسانه وكأنه قوله، بينما يكون الكلام لدولوز نفسه. كان دولوز يقوِّل أيَ فيلسوف قولا دولوزيا. ولتحقيق ذلك كان يلجأ لعمليات انزياح عن المركز، وانزلاقات، وانكسارات، انبعاثات سرية...
كان لدولوز تصورا "مستفزا" لتاريخ الفلسفة. فهو أراده كعملية فنية إبداعية تتم من خلال تجميع لقطات ووحدات عن طريق "ما يشبه تقنية اللصق في الرسم". فنحصل على هيجل بلحية فلسفية، وعلى ماركس بدون لحية. ونحصل في الأخير على كتاب خيالي وجدي عن الفلسفة. سيتعلق الأمر بتاريخ افتراضي لتاريخ الفلسفة. منتوج يختلط فيه الصدق والخيانة. وهذا ما نجده في ما كتبه عن وحدة الوجود في فلسفة سبينوزا، وعن العود الأبدي في فلسفة نيتشه.
لا وجود للثبات بالنسبة لفلسفة دولوز. فالثبات وهم. وما نراه يتكرر، وما نعتبره متماثلا مع ذاته، وما نراه متشابها مع ما يشبهه... يعج في الحقيقة بما لا يُحصى من الاختلافات. لا يمكن اختزال شيء في شيء سابق عنه. فالوجود صيرورة واختلاف ولا وجود للتكرار في اي مجال من مجالات الحياة والفكر. ومصر توهمنا بوجود الثبات والتكرار هو تعودنا على استغلال الواقع وفق ما نحتاجه في حياتنا الفردية والجماعية. فنحن نتوجه بحكم المصلحة لما هو أساسي في الأشياء وهو ما نعتبره ثابتا فيها. وبحكم المصلحة والبحث عن السهولة في التعامل مع الواقع نفضل الثبات على التغير. نتغاضى عن الاختلافات الهائلة التي يزخر بها كل شيء وهي اختلافات عرضية ومحتملة وممكنة، ونرد ما هو مجهول لما هو معلوم سلفا من طرفنا. أي أننا نضحي بالواقع بلجوئنا للهوية والمماثلة والتشابه والنموذج والعام والماهية. يقتضي الاختلاف المميز للوجود أن نهتم بما ه عرضي، متأرجح، منفتح على انبثاق حدث معين لا يقبل أن يختزل لما نعرفه سلفا، والتخلص من فكرة المكون الأساسي للشيء. أي لا بد من رد الاعتبار للتفرد والروابط القائمة على الاختلافات. فلا وجود لأية هوية وراء التغير الدائم للمظاهر. فالأهمية والأولوية للحركة وليس للسكون، لعدم الاستقرار وليس للاستقرار، للتعدد وليس للوحدة، وللآخر وليس للهو نفسه، للإثبات وليس للسلب، للاختلاف وليس للتكرار، للانزياح عن المركز وليس للتبعية لمركز.