نقد جيل دولوز للفضاء العمومي
محمد الهلالي
2024 / 9 / 6 - 15:47
ألان بوليو (Alain Beaulieu)
ترجمة: محمد الهلالي
أين نضع ممارسة السياسة على نطاق جزئي (السياسة على المستوى الميكروسكوبي)، كما يفهما دولوز، مقارنة بموقف منظري السياسة الذين يقدمون للنقاش صياغةً جديدةً لمفاهيم الفضاء العمومي كتِرياق ضد عملية التجزيء المميزة للحداثة المعاصرة (حنة أرندت(1)، هابرماس(2)، تايلور(3)...)؟ هل يؤدي حذر جيل دولوز من الفضاء العمومي إلى التخلي عن تحمل المسؤولية؟ هل ينتج عن ذلك تدعيم، مصرح به إلى هذا الحد أو ذاك، القيم الفردانية؟
كيف تؤدي المزاوجة الخاصة، التي يقوم بها دولوز، بين التجربة السياسية والتجربة الإستطيقية إلى صيغة واقعية للالتزام؟
لا تتمتع النزعة الإرادية في مجال السياسة، حسب دولوز، بأية قيمة. فعبارة مثل "أريد ممارسة السياسة"، أو مثل "أريد المشاركة في النقاش العمومي" لا معنى لهما، بما أن الممارسة السياسية تشكل بالأساس جوابا تقدمه قوى موضوعية، أي ليست قوى أشخاص، بعيدة كل البعد عن النزعة الفردانية. ومن الأفضل للفرد، في غياب تحقق هذه الضرورة، أن يهدأ ويلزم بيته عوض أن يخاطر بأناه في مواجهة السلطة السياسية.
تنتمي شبكة القوى الموضوعية، حسب دولوز، لمجال لا تُنسب فيه المسؤولية لأحد (مجال الـ"هم") حيث الخصوصي والعمومي، الفردي والجماعي، المجتمع المدني والدولة... أمورٌ تفقد أوضاعها المميزة لها(4). إن الـ"هم" هي التعبير عن "حيادٍ" يُفهم بمعنى مشابه للمعنى الذي اقترحه موريس بلانشو له(5)، وبالتالي فمعناه يختلف عن المعنى الذي ينسبه له هيدغر في "الوجود والزمان" حيث يسمه بعدم الأصالة، وهو نفس المعنى الذي ينسبه له بعده ليفيناس(6). وعلى غرار التمييز بين الخصوصي والعمومي، يظل التمييز بين الأصيل وغير الأصيل، بالنسبة لدولوز، غير ملائم لفهم الالتزام في عملية خلق الحياة السياسية باعتبارها تظل، من الناحية المثالية والمجردة، عملية ناتجة عن بناء.
يعتبر لجوء دولوز للـ"هم" استراتيجيا لتحييد جدلية الذات والآخر، الفرد المعزول والغيرية التي يمكن أن تتطابق أيضا مع الـ"أنت" عند بوبر ( Buber)، أو الـ"نحن" عند أصحاب النزعة البرلمانية، مثلما يمكنها أن تتطابق مع "الوجه" عند ليفناس. لا تصبح الـ"أنا" جماعية إلا على مستوى الـ"هم"، وهو ما يجعلها تتمكن من البدء في التفكير سياسيا.
إن حيادا لتجربة سياسية من هذا القبيل، تجربة سياسة متناغمة مع الخاصية اللازمنية للنضال الذي يُخاض من أجل خلق شعب يُنتظر قدومُه إلى ما لا نهاية، تجعل تكوّن فضاءٍ عمومي للنقاش المتزامن أمرا مستحيلا.
ولا يُنتظرُ، فضلا عن ذك، إلا القليل من المشاورات السياسية، بما أنه يوجد دوما، حسب دولوز "شعور بالخزي من الكلام من أجل الآخرين وفاعا عنهم وعوضهم"(7). دون أن ننسى أنّ التفاعلات الخطابية بشكل دقيق، على النقيض من اللقاءات العاطفية، تدافع في أغلب الأحيان عن مصالح خاصة إلى هذا الحد أو ذاك، وتفشل دوما في الوصول إلى ما هو أساسي: "لا نرى ما نتكلم عنه إذا لم نتكلم عما نراه"(8).
لا يكمن مشكل الفضاء العمومي في عجزه على الانفتاح على الجميع، أو في إقصاء بعض المجموعات منه. لا يعتقد دولوز بأنه من الضروري بلورة نموذج أكثر فعالية "لتجنب" التفاوتات، وتطوير إتيقا بينذاتية قائمة على معايير عقلانية، لصالح الخطابات العمومية، نموذج يكون أقدر على تحديد الخير المشترك، حتى وإن اعتُبِرت هذه الإيتيقا الجديدة والمعايير الخطابية "ما بعد بُرجوازية"(9). إن عجز الفضاء العمومي لا يكمن فقط في كونه يظل استراتيجية لسيطرة نافعة، أو فكرة مثالية عن السلطة لا يؤثر على الدوام في القوى الموضوعية، لكن عجز الفضاء العمومي يكمن أيضا في كونه ينكر أو يتجاهل تجربة القوى التي تفكك علاقات وتوظفها في سياقات أخرى، والتي تتجاوز جزئيا عقلانية الخطابات. ليس "الإشهار" بالنسبة لدولوز (وغاتاري) إلا مجالا لتداول الآراء. وحتى في حالة إيجاد فضاء عمومي مضادـ أو فضاء عمومي موازي من أجل النقاش، فإنه سيواجه بنفس القوة: فبالرغم من أنه ليس أداة سلطة مسيطرة، فإن أهدافه تظل موجهة نحو فكرة مثالية تخص الهوية، حُدّدت عبر خطابات منظمة تنشر آراء ولا تؤثر في القوى التي تفككك عناصر في مجال معين وتوظيفها في مجالات أخرى. إن اعتباطية الرأي الذاتي (الذي يستهدف الحصول على الإجماع في المستوى الجماعي أو البينذاتي) تتجه نحو تعالي مثالي مضر بالتجربة المحايثة للقوى الموضوعية المؤهلة وحدها لتوليد مفاهيم فلسفية. وبهذا المعنى يختلط فن التواصل الذي ينشر الآراء في الساحة العمومية بـ"وهم التعالي"(10)، أي بكونية مجردة لا ترى تفرد التجارب والإبداعات المفاهيمية. إن الفقرة الموالية هي، بدون شك، الفقرة التي تثير بشكل أوضح (ولو ضمنيا) موقف دولوز (وغاتاري) من النظريات الحديثة حول الفضاء العمومي:
"لا تجد الفلسفة ملجأ أخيرا لها في التواصل الذي ينحصر عمله في تكوين الآراء لخلق الاجماع، وليس لخلق المفهوم (...) فكل عملية خلق هي عملية متفردة، والمفهوم كنتيجة لخلق فلسفي خاص هو دوما تفرّد. إن أول مبدأ للفلسفة هو أن الكليات لا تفسر شيئا، بل ينبغي أن تخضع هي نفسها للتفسير"(11).
ليس للفلسفة السياسية المهتمة بالفضاء العمومي من الفلسفة إلا الاسم. ويضيف دولوز وغاتاري أن التصورات الحديثة للتواصل في الفلسفة السياسية تظل سفسطائية على نحو غامض، وتحن حنينا طائشا للأغورا الأثينية.
"لم تؤدي أية مناقشة ديمقراطية غربية بين أصدقاء إلى إنتاج أي مفهوم، ربما أتت هذه المناقشة الديمقراطية من اليونان، لكن هؤلاء كانوا حذرين جدا منها. وكانوا يخضعونها لمعاملة صارمة، بينما كان المفهوم يشبه، على نحو أدق، طائرا ساخرا يناجي نفسه محلقا فوق ميدان معركة الآراء المتصارعة المدمّرة. لا تبجّل الفلسفة نفسها إلى الحد الذي يجعلها تقدم نفسها كأثينا جديدة، وتلجأ للكليات المستعملة في التواصل التي يُفترض أنها ستوفر قواعد للتحكم الخيالي في الأسواق وفي وسائل الإعلام (مثالية بين-ذاتية)"(12).
هل يشبه تسييس دولوز للتجربة الإستطيقية شكلا من أشكال النزعة الأرستقراطية المتحررة من كل التزام والتي تتسامى عن المشاكل الواقعية والملموسة (التوتاليتارية، الظلم، الحروب، الفقر، الاستغلال...)؟ من الخطأ اعتقاد ذلك، لأن هذا التأويل لا يصمد أمام الحافز الفعلي، حسب دولوز، والمتمثل في مناصرة تنوع أساليب الوجود وإدانة كل أشكال السلطة سواء الإمبراطورية أو المنمقة أو اشكال السلطة اليومية أو الخفية المقنعة، والتي تترك آثارها في الفضاء كأدنى أشكال التعبير عن القوة.
صحيح أن مقاومة دولوز للحاضر تنتظم من خلال عدم احتلال المراكز الأمامية بخصوص بعض القيم وبعض المشاكل الراهنة (الديمقراطية، القومية، المواطنة العالمية إلخ...). لكن هذا الامتناع عن الخوض في هذه المشاكل يهدف في آخر المطاف إلى تمكين قوى أكثر تأثيرا من التفاعل فيما بينها لتكوين جماعة لا- زمنية. تخلق تحالفات ما بين الطبقات والشعوب. إن امتناع الزاهد أو المناضل المترحل (الذي لا مكان له ولا حزب له) عن التدخل واتخاذ موقف من بعض الأحداث الراهنة، يجعله يكتسب القدرة على التفكير في سياسة لا تقوم على الانتماء لهوية ما، بفضل اكتشاف القوى المدمرة التي تفكك علاقات معينة وتعيد توظيفها في سياقات أخرى، والتي تقوده إلى صيرورة موضوعية لا تعرف الانقطاع: "إذا كان الكاتب يعيش على هامش الأحداث أو امتنع عن التدخل في شؤون جماعته الهشة، فإن وضعه هذا سيمكنه أكثر من التعبير عن جماعة أخرى توجد في حالة كمون"(13). يفكر دولوز في هذه "الجماعة الكامنة" انطلاقا من كونها "جماعة منضّدة"(14)، والتي لا يتطابق فيها المشترك مع ما تقتسمه جماعة قائمة على المصالح. ولكنها تتطابق مع ما يميز اللقاءات (على شاكلة الإحساسات التي توحد الجسم). إن جماعة منضّدة مثل هذه تمنح بديلا عن النزعة الإرادية، وعن تنميط أنماط الوجود (بما فيها نمط الإنسان الاقتصادي) وعن النزعة الاستبدادية في جميع أشكالها، بالمساهمة في تحديد وتعريف شيوعية دولوز المتفردة، والتي تستهدف قدوم شعب منذور للخوض في سيرورة تكوين لا نهاية لها، والتي يصبح فيها الكلام الموصِّل ثانويا فيما يتعلق بتجربة واكتشاف القوى التي تفكك علاقات معينة وتعيد توظيفها في سياقات أخرى.
♦ المرجع:
-Alain Beaulieu, sur la question de l’espace public, in. Gilles Deleuze et ses contemporains, L’Harmattan, 2011.
♦ هوامش:
1) H. Arendt, Condition de l’homme moderne, Paris, Calmann-Lévy, 1983.
2) J. Habermas, L’Espace public, Paris, Payot, 1993.
3) Ch. Taylor, Grandeur et misère de la modernité, Montréal, Bellarmin, 1992.
4) Voir, entre autres, G. Deleuze, Logique du sens, Paris, Minuit, 1969, p. 49.
5) Voir, notamment, M. Blanchot « La solitude essentielle », dans L’Espace littéraire, Paris,
Gallimard, 1955, p. 11-32.
6) E. Lévinas, « Contre la philosophie du Neutre », dans Totalité et infini, Paris, Livre de
poche, 1971, p. 332-333.
(7 G. Deleuze, « Les intellectuels et le pouvoir. Entretien Michel Foucault-Gilles Deleuze »,
Revue L Arc, 49, 1972, p. 5. Repris dans G. Deleuze, L’Île déserte et autres textes, Paris,
Minuit, 2002, p. 291.
(8 G. Deleuze, Foucault, Paris, Minuit, 1986, p. 117.
(9 N. Fraser, « Repenser l espace public : une contribution à la critique de la démocratie
réellement existante », dans E. Renault et Y. Sintomer (-dir-.), Où en est la théorie critique ?,
Paris, La Découverte, 2003, en particulier p. 106, 123, 131 et 132.
(10 G. Deleuze et F. Guattari, Qu’est-ce que la philosophie ?, Paris, Minuit, 1991, p. 50-51.
(11 Ibid., p. 11-12.
(12 Ibid., p. 12.
(13 G. Deleuze et F. Guattari, Kafka. Pour une littérature mineure, Paris, Minuit, 1075, p. 31-
32.
(14 G. Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression, Paris, Minuit, 1968, p. 254-255 voir
aussi l’ensemble de ce chap. XXVII.