مذكرات تائب - 1


محمد عبد القادر الفار
2024 / 9 / 4 - 13:46     

في زمنٍ كثرت فيه التحولات والتبدلات، وفي خضم الأحداث الجسام التي عصف بها الربيع العربي وما تلاه من انقلابات عسكرية وانهيارات اجتماعية، وجدت نفسي في مواجهة مع ذاتي، أحاسبها على ما انغمست فيه من أفكار علمانية ومناهج تغريبية. كانت صدمة الواقع الذي عايشته صاعقة، إذ رأيت بأم عيني كيف أن الأحلام والآمال التي بنيناها فوق الرمال المتحركة تحولت إلى كوابيس قاسية، وكيف أن العدل الذي نادينا به انقلب إلى ظلم صارخ، وأن الحرية التي سعينا إليها أصبحت قيدًا جديدًا حول أعناقنا.

لقد كان لهذه الأحداث أثرٌ عميقٌ في نفسي، أيقظني من غفلتي، وأعادني إلى رحاب الإسلام، الإسلام الذي دان به عامة الناس منذ قرون دون تكلف أو عبث. لم يكن هذا الإسلام دينًا مغلقًا أو بعيدًا عن حياة الناس اليومية، بل كان جزءًا أصيلًا من نسيجهم الاجتماعي والثقافي، يستجيب لحاجاتهم ويرشدهم إلى الحق والعدل دون تشدد أو تمييع.

تذكرت في هذا المسار كلمات عبد الوهاب المسيري، الذي لطالما نبه إلى خطورة التغريب ومحاولات فصل الدين عن الحياة. يقول المسيري: "العلمانية الشاملة هي محاولة لإفراغ العالم من القداسة، لتصبح كل الأمور، بما فيها الإنسان ذاته، مجرد مواد للاستهلاك والتسليع." كان لهذه الكلمات وقع كبير في نفسي، إذ أدركت أنني كنت أعيش في دائرة مغلقة من الأفكار العلمانية، التي كانت تجعلني أرى العالم من منظور مادي بحت، بعيدًا عن الروح والقيم الدينية.

وعندما قرأت لعلي عزت بيغوفيتش، أدركت أن الإسلام ليس مجرد دين بالمعنى التقليدي، بل هو رؤية شاملة للكون والحياة. يقول بيغوفيتش: "الإسلام هو الدعوة المستمرة لتجاوز الإنسان لحيوانيته ونزعته المادية، والسعي نحو تحقيق إنسانيته الحقيقية من خلال التمسك بالقيم الروحية." هذه الكلمات فتحت لي أبوابًا جديدة من التفكير، وأعادتني إلى جوهر الدين الذي كنت قد ابتعدت عنه بفعل الأفكار المستوردة.

ولا يمكنني أن أغفل عن تأثير سيد قطب في هذه الرحلة الفكرية والروحية. فكتاباته كانت دائمًا تركز على ضرورة العودة إلى أصول الدين وتنقية الإيمان من الشوائب التي علقت به بفعل الزمن والتدخلات البشرية. يقول سيد قطب في "معالم في الطريق": "إن الجاهلية التي نعيشها اليوم ليست فقط في العادات والتقاليد، بل في الفكر والمعتقدات التي تفرغ الإنسان من إنسانيته وتحوله إلى كائن مادي يبحث عن اللذة والمتعة دون اعتبار للروح والقيم."

وفي هذا السياق، لا يمكنني إلا أن أستذكر تجربة محمد أحمد الراشد (عبد المنعم صالح العلي العزي)، الذي كان له دور كبير في تعزيز فكرة العمل الدعوي المتجدد. من خلال كتاباته وحركته الفكرية، نبه الراشد إلى أهمية العودة إلى الإسلام بشموليته ودون اختزال، الإسلام الذي يشمل العبادة والعمل، الروح والجسد، ويحقق للإنسان التوازن في هذا العالم المضطرب.

هذا هو الإسلام الذي عدت إليه، الإسلام الذي يجمع بين الروح والمادة، بين الدين والدنيا، دون تفريط أو إفراط. هو الدين الذي ينبض بالحياة والإنسانية، والذي يعيد للإنسان كرامته ومكانته في هذا الكون. إن دعوتي اليوم هي دعوة للعودة إلى هذا الإسلام، كمنهج حياة شامل يتعامل مع تحديات العصر بروح منفتحة ومتجددة، دون أن يفقد هويته أو يتنازل عن قيمه الأساسية.

إن حديثي عن توبتي ما هو إلا دعوة لغيري أيضاً لاكتشاف الذات من جديد، والعودة إلى الدين كما عاشه أجدادنا، دين الفطرة السليمة والعقلانية المتزنة، الذي يقودنا إلى الحق والخير والجمال في هذا العالم الفاني.

وسيكون للحديث بقية بمشيئة الله