السفر إلى قلعة الرفاق (عن -سيرة شجرة البُطم- لمعاد الجحري)
محمد الهلالي
2024 / 8 / 31 - 07:50
1
إنها سيرة معاد المغربي، من أصول أمازيغية، تيمّنَ والدُه، الذي كان مالكا صغيرا وعاملا زراعيا في نفس الوقت، بمعاذ بن جبل، الداعية الإسلامي في اليمن، فسماه باسمه. شعر بخيبة أمل في صغره لأنه لم ير وجه السلطان محمد الخامس على القمر. فصار عاشقا للعلوم، واعتنق توجها أمميا، وتبنى مذهبا سياسيا يدعو إلى تخليص الفقراء من الاستبداد والاستغلال. لم ينس تساؤل والدته، في صغره، عن مبررات عدم إقرار المساواة في الإرث بين الذكور والإناث.
اكتسحته رغبة جامحة للكتابة عن حياته، وعن الكفاح الثوري. ومنذ الصفحات الأولى من "سيرة شجرة البُطم-الضرو" (صدرت عن رؤى برينت، سلا، الطبعة الأولى: 2024، 185 صفحة)، يعلن بوضوح عن المرجعية التأسيسية العامة التي حددت معالم اختياره الأدبي: جاك بريڤير ( Jacques Prévert)، ألبير كامو ( Albert Camus)، سيمون دوبوفوار ( Simone De Beauvoir)، طه حسين، حنا مينه، علي فقير.
وُلد كاتب "سيرة شجرة البطم" في شهر ماي "خلال منزلة موت الأرض"(ص 35). وتلازمت سنته الأولى في الحياة بتعبير والده، حسب ما روته أمه، عن غرابة ارتباطه به وبأخيه كأب حين قال: "تمنيتُ لو مات طفلاي هذان بدل وفاة محمد الخامس"(ص 35).
2
طرحَتْ عليه فاطمة الزهراء عدة أسئلة تخص مبررات كتابته لهذه السيرة: "لماذا تريد أن تكتب يا معاد؟(ص 31) ولماذا اليوم وليس من قبل؟(ص 32) ومن يكتب: أنت أم الطفل أو الرجل الذي بداخلك بما أنك تكتب سيرة ذاتية؟(ص 33) وتوّجتْ تلك الأسئلة بسؤال آخر جوهري يحيل مباشرة على مدى انسجام مشروعه في الكتابة مع توجهه الفلسفي والسياسي الذي يتبناه ويعيش من أجله: "سمعتُ بأنَّ حكي الفرد عن نفسه تقليدٌ برجوازي، فيما أنت مناضل شيوعي، فما قولك؟"(ص 34).
كان جوابه عن أسئلتها عاما، وبدا وكأنه لا يريد الغوص في التفكير في هذا الإشكال حتى لا يصل إلى استحالة الكتابة عن نفسه انسجاما مع قناعاته، فهو مُصر على الكتابة والمبررات التي قدمها كافية، في نظره، لطمأنته: مضمون الحكي هو الذي يحدد الفرق بين البرجوازي والثوري، الاشتراكية لا تلغي الفرد... لكن أقوى حجة قدمها في دفاعه عن رأيه هي قوله بأن "الهدف ليس هو الحكي عن "أنا" بل عن تجربة حياة تقاسمتها مع جماعات من الناس"(ص 34).
تُعتبرُ فاطمة الزهراء، في "سيرة شجرة البطم"، ضمير الكاتب وأناه الأخرى، ولقد أكد ذلك بقوله: "بفضل فاطمة الزهراء تمكنتُ من إنجاز ما أنجزته"(ص 183).
3
إنها سيرة مسار جماعات من الناس يرويها شخص فرد، سيرة تتحول عبر زمن الحكي وأمكنته إلى سِير عدة. فهي تشبه سيرة شجرة مغربية أصيلة: شجرة الضرو (البطم) التي لها حضور متميز في أراضي قبيلة مسّارة ذات الأصل الأمازيغي. ويمكن مقارنة خصائص هذه الشجرة ببعض مميزات الشعب المغربي. فهي:
- دائمة الخضرة
- ثمارها صالحة للأكل
- أزهارها تتفتح
- تفوح منها رائحة طيبة
- شجرة فضفاضة
- شجرة عملاقة
- تنمو في المناطق الصخرية وشبه الجافة
- شجرة تقاوم الظروف المناخية الصعبة
- كانت موجودة بكثرة في المغرب.
تتضمن هذه السيرة صفحات هامة عن المكونات الطبيعية (مناخ، نباتات، حيوانات) والاجتماعية (لغة، لهجة، عادات غذائية) والتاريخية (مقاومة الاستعمار) للمنطقة التي قضى فيها الكاتب طفولته (منطقة قبيلة بني مسّارة).
وفي مجال الشغل والكدح والاستغلال، قدم الكاتب معطيات كثيرة عن تجربته كطفل وكشاب: فهو اشتغل في مجال رعي الماشية، وفي مجال الفلاحة (البطيخ، التبغ، الحرث، الدرس، نقل القمح). كما قدم معلومات وتوضيحات عن العاملين في تجارة الكيف، عن تهريبه وإعداده للبيع ومخاطر التهريب وملاحقة السلطة للمهربين وتجربة سجن المهربين.
4
تتطرق "سيرة شجرة البطم" لتجربة الكاتب النقابية داخل نقابة الاتحاد المغربي للشغل. وهي تجربة تميزت بمواجهة النقابيين اليساريين للمحجوب بن الصديق "ملك" الاتحاد المغربي للشغل ولحاشيته البيروقراطية اليمينية التسلطية. وتبينُ كيف كان يمارسُ سلطته بطقوس تشبه الطقوس المخزنية (تقبيل الكتف، تقبيل اليد، الانحناء...). كان الاتحاد المغربي للشغل "مملكة صغيرة" ضمن مملكة كبيرة. وقد شرع الكاتب ورفاقه في نخر عرش السلطة البيروقراطية كلما تمكنوا من ذلك، وذكر العديد منهم: عبد الحميد أمين، عبد الرزاق الإدريسي، حسن محفوظ، عبد اللطيف القندوسي، اسماعيل آمرار، محمد كريم، عبد الله فناتسه، عبد الرحيم هندوف، محمد هاكش، خديجة غامري، سميرة كيناني.
وأدتْ مواجهتهم للبيروقراطية النقابية إلى "أكبر عملية استئصال وتصفية سياسية في تاريخ الاتحاد المغربي للشغل استهدفت التوجه الديمقراطي وأنصاره (ابتداء من 05 مارس 2012)، إضافة إلى عمليات شراء الذمم التي تمارسها البيروقراطية اليمينية التسلطية، وحيث أن عددا لا بأس به سقطوا في أحضان البيروقراطية التي ابتلعتهم بشكل تام، كما ابتلعت عددا من المرتدين من الحركة الماركسية اللينينية واليسار بشكل عام. وتستعمل في ذلك أساليب متنوعة منها الإنفاق عليهم في المطاعم والخمور وإطلاق أيديهم للتلاعب بملفات نقابية وبطائق الانخراط والسفريات للخارج والتفرغ النقابي"(ص 127-128).
5
أرخت "سيرة شجرة البطم" لزيارة أبراهام السرفاتي لقرية عمال مناجم جبل عوام: قرية تغزى. وأحس الكاتب بمرارة ناتجة عن المواقف الجديدة التي تبناها السرفاتي بعد عودته للمغرب في عهد محمد السادس. ولاحظ بأسف مقاطعة العمال لزيارته ورفضهم حضور اللقاء معه. لقد استنتج أن "المكتب النقابي لعمال جبل عوام قاطع وعبأ لمقاطعة اللقاء مع أبراهام السرفاتي بدعوى أن هذا الأخير يهودي الديانة"(ص 137).
كان انقلاب السرفاتي على مواقفه مقلقا للكاتب ولرفاقه. فإلى حدود سنة 1991 كان السرفاتي يقول علانية إنه:
- يحافظ على كل آرائه السياسية
- وأن الحل الجذري للمشكل المغربي هو إقامة الجمهورية الوطنية الديمقراطية الشعبية
- وأن اللينينية صحيحة فيما يتعلق بتحقيق الثورة رغم أن بعض جوانبها ليست صحيحة في بناء الاشتراكية
لكنه غير مواقفه فيما بعد، حيث أنه:
- أعاد النظر في مفهوم الطليعة الثورية
- أعاد النظر في مفهوم المركزية الديمقراطية
- تبنى أطروحة الأنوية الثورية
- آمن بأن هناك التقاء بين إرادة المجتمع المدني وإرادة الملك محمد السادس لبناء مغرب ديمقراطي عصري
وخلص الكاتب من تأمله في مسيرة السرفاتي إلى نتيجة مأساوية تمثلت في "نهاية بطل"(ص 141) وسط دموع وانسحابات أمام فندق هلتون بالرباط، حيث كان يقيم السرفاتي برعاية ملكية. وقبل "الوداع" خاطبه عبد الحميد أمين قائلا: "مكانك ليس هنا، بل مع الطبقة العاملة"(ص 141). لكن السرفاتي لم ينصت لا لنداء عبد الحميد أمين المستند للتاريخ والمبادئ وضرورة الحاضر، ولا لشعار "السرفاتي يا همام، إلى الأمام، إلى الأمام"(ص 142). ومع ذلك فصوتُ الطبقة العاملة ظل يدوي في أذنيه حسب ما وثقه علي فقير "صديقه منذ سنة 1969"(ص 143). ولم يستسلم رفاقه، رافضين "مخزنة الجنائز"(ص 145)، وانتزعوه من المخزن "جثة تُعد للدفن" وأسمعوا روحه شعارهم الخالد: "لنا يا رفاق لقاء غدا".
6
يبدأ رفض الظلم بالنسبة للثوري المغربي برفضه أولا وقبل كل شيء في فلسطين. ففلسطين هي الاختبار الأول للانخراط في السيرورة الثورية، وكأن لفلسطين الأولوية المنطقية والمبدئية، كأنها الأرض المثالية لتوقيع بيان الانتماء لسيرورة الثورة. لذلك قال الكاتب عنها: "فلسطين هي محرار إنسانية كل إنسان، من يقبل الظلم والقهر في فلسطين لا يمكنه الادعاء بأنه يرفضهما في أي مكان آخر من العالم"(ص 173).