القوى الوطنية العربية والخطاب الطائفي
رضي السماك
2024 / 7 / 28 - 20:11
ما زال خطاب الكراهية الذي يمقت التآخي مع إخوته المواطنين من مكونات نسيج شركاء الوطن الواحد آخذاً في التعمق والاتساع بقفزات متلاحقة مذهلة عاماً إثر عام، وعلى نحو لا سابق له منذ فجر النهضة العربية قبل أكثر من 150 عاماً.ففي العراق على، سبيل المثال لا الحصر، فقد أضحى اليوم هذا البلد واحداً من أكثر من البلدان العربية معاناةً من هذا الخطاب، لا بل نُكب من جرائه بكوارث عديدة تجسدت في المذابح الجماعية والعنف والأعمال الإرهابية منذ الاحتلال الأميركي عام 2003. ومؤخراً نشرت صحيفة "طريق الشعب" العراقية بتاريخ 24 تموز الماضي تقريراً أصدرته مؤسسة "مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية" عما وصل إليه هذا الخطاب في "السوشيال ميديا"عام 2023 من مستويات في منتهى الخطورة: فجاء "الفيسبوك" في موقع الصدارة بنسبة تتراوح بين 30 إلى 33 % ، يليه "تيك توك" بنسبة 22 % خلال الربع الثالث من العام،ثم منصة X بنسبة 21 % في الربع الأخير من العام ، وحصدت "انستغرام" نسبة 11- 13 % ، أما "القنوات الفضائية" فجاءت بنسبة ما بين 19- 21 % . و يفسر تدني نسبة هذه الأخيرة في تقديرنا لما تحتله " السوشيال ميديا" من أولوية عند المواطن تفوق اهتمامه بالتلفزيون رغم خطورة ما يبث فيها من تحريض طائفي بكل فجور، وبخاصة في القنوات الدينية. على أن التقرير جاء خالياً من منصة" الواتساب" ربما لصعوبة رصد خطاب الكراهية فيها، بصفتها منصة مغلقة، مع أنها من أكثر المنصات خطورة، ما لم تكن الأخطر.
عراقياً فلعل أهم الدلالات المستخلصة من التقرير جاءت على لسان الدكتور سعد سلوم رئيس المؤسسة نفسها التي أصدرت التقرير، إذ صرّح بأن المؤشرات الواردة في التقرير باتت تهدد السلم الاجتماعي، وتعيد انتاج أزمات عديدة بأشكال جديدة شتى من الأزمات السياسية والاجتماعية، لم تكن معروفة قبل ابتكار تلك المنصات، وأن هناك قوى منتفعة من خطابات الكراهية، بغرض التحكم في الرأي العام (يقصد على مستوى الطائفة) واختلاق أزمات مزيفة لحرف الأنظار عن الأزمات المشتركة الأهم بين كل مكونات النسيج الوطني، فيما يُحمّل آخرون قوى متنفذة استغلال مناسبات دينية بعينها لترويج خطابات الكراهية وبث النعرات الطائفية وإعادة انتاجها، تعويضاً عن افتقارهم لمشروع إعادة بناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية لتكون دولة كل مواطنيها، وتعويضاً أيضاً عن افتقارهم لمشروع برنامج سياسي اقتصادي تنموي تستفيد منه معيشياً أوسع الفئات الشعبية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : إلى أي مدى يمكن أن تنطبق دلالات المؤشرات الإحصائية العراقية على البلدان المبتلاة بتلك الآفة بالغة الخطورة؟ ليس خافياً على أحد بأن دلالات التقرير العراقي هي دلالات مشتركة، تنطبق على معظم الأقطار العربية المبتلاة بهذا الوباء بغض النظر عن تباين درجات الخطورة فيما بينها. ومن المفارقات التاريخية أن الاستعمار الذي فشل في تكريس خطاب الكراهية وفق سياسة "فرّق تسُد" لم يصل حينذاك خطاب الكراهية في نجاحات الاستعمار الجزئية إلى هذا المستوى من الخطورة الشديدة الذي بلغه اليوم! ومن هنا فقد بات محتماً على كل القوى الوطنية و الشريفة في البلدان العربية، على اختلاف انتماءاتها السياسية والدينية والتي تعز عليها وحدة شعوبها بأن تولي هذه القضية المقدسة أولوية قصوى، وأن تضعها على رأس أجنداتها، وأن تضغط أيضاً على الحكومات العربية لتتحمل مسؤولياتها الدقيقة باعتبارها الطرف الأول المعني والمسئول عن صيانة السلم الأهلي وتفادي تفكك الجبهات الداخلية والحروب الأهلية داخل دولها، وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال إلا من خلال تضافر جهود جميع تلك الجهات نحو تحقيق هذه الغاية، وصولاً إلى مقاربات ذات حلول بآليات عملية ناجعة من شأنها اجتثاث هذا الوباء من جذوره، ومن ثم عدم الاكتفاء بإصدار التقارير الدورية وعقد المؤتمرات، رغم تسليمنا بأهميتها وبفائدة استمرارها لقرع ناقوس الخطر كلما تفاقمت درجاته.