مشرحة بغداد، مشرحة الأحياء!


خالد صبيح
2024 / 6 / 4 - 18:14     

خاطرة


ابتدأ برهان شاوي مسيرته الإبداعية شاعراً يساريا، درس السينما في الاتحاد السوفيتي ثم تحول إلى الرواية، وبعد تغيير 2003 عمل عملا إداريا ــ سياسيا، هو مستشارا لدى رئيس الجمهورية (الطالباني).

له في مجال الرواية عدة أعمال من بينها (مشرحة بغداد)، وأظن أنها باكورة أعماله الروائية.

في هذه الرواية بدا أثر الأدب الروسي الكلاسيكي، خصوصا غوغول، واضحا على الكاتب الذي استفاد من خلفيته السينمائية في تقنيات العمل وفي حيثياته. واستطاع برهان أن يقدم لنا في روايته، ببراعة، فكرة جذابة ومميزة اقتربت في بعض خطوطها من روايات الرعب الشائعة في بعض من روايات هذه الأيام، حيث جسد عالما كابوسيا مخيفا ومحزنا، لكن ليس بغير هفوات جمالية وتقنية هنا وهناك، منها اللغة التقريرية في كثير من جوانب العمل مما أوهنه وأفقره بعض الشيء ونأى به عن ما تفترضه اللغة الروائية من جمالية في النسيج والبناء. واللغة التقريرية، بتقديري (ومعاناتي)، هي من أكبر المثالب التي يمكن أن يقع فيها عمل روائي، بل أنها تكاد تكون عندي معيارا تقنيا وجماليا في مدى متانة العمل الروائي وقدرته على تحقيق شرطه الإبداعي.

وما يهمني هنا ليس بنية وتقنيات الرواية، فهذه اشتغالات أخرى، وإنما العالم الواقعي الذي أومأت إليه، وهو عالم معتم وكئيب، ليس فقط لأن وقائع الرواية تدور في مشرحة، وأبطالها من الموتى، بل بما صورته في سردها عن عالم الأحياء الذي روَت وقائعه، بطريقة فانتازية، جثث المشرحة التي أسقطت عن نفسها، لأنها جثث، كل المواضعات والمحاذير الاجتماعية والسياسية فجاء سردها صادقا وصريحا. وعالم الأحياء الذي صورته الرواية هو عالم العراق السياسي اليوم، بعد تغيير عام 2003، وهو عالم مليء بالفظائع في أبسط توصيف له. تجَسَدّ فيه الرعب الحقيقي بدلا من رعب عالم الموتى الذي قصدت الرواية بثه في أجوائها.

وإذا كانت العوالم التي جسدتها الرواية واقعية، وهذا مرجح، لأن الكاتب عايش هذا الواقع عن قرب بحكم موقعه الوظيفي، فهذا يعني ببساطة أن واقعنا، نحن الأحياء خارج المشرحة، هو واقع مخزي وباعث على اليأس بطريقة لا رجاء فيها. وخلاصة هذا الواقع الكابوسي هي أن من يحكمون العراق الآن ويتحكمون بمقدراته هم صنفان: انتهازيون أفاقون، ممن خلّفهم زمن النظام البعثي، لا يتورعون عن فعل أي شيء من أجل مصالحهم الأنانية الضيقة؛ وأغبياء جهلة، من أولئك الذين أتى بهم النظام الأمريكي الجديد، وهم الذين سلبهم غباؤهم وانحطاطهم أي قدرة على التمييز، وأوقعهم جهلهم في حبائل الانتهازيين ( الدهاة) ومكائدهم.

ولنا أن نتصور عالما وبلدا تديره عقليات من هذا النوع.

صورت لنا "مشرحة بغداد" واقعا محزنا ومؤلما ويثير الغضب لبلد تقف اليوم على ساقين واهنتين كسيحتين، هما الانتهازية والغباء، ساقان لا يمكنهما حملنا لأبعد من أفق الكارثة.