الشكل والمضمون في قصة -البحث عن معتوه- نافذ الرفاعي


رائد الحواري
2024 / 5 / 11 - 23:47     

الشكل والمضمون في قصة
"البحث عن معتوه"
نافذ الرفاعي
تكمن أهمية الأدب ليس في ما يقدمه من أفكار/أحداث فحسب، بل في طريقة التقديم، فالواقع البائس تجعل المتلقي ينفر/يبتعد عن أي حديث متعلق بهذا الواقع، لكن طريقة تقديم الأحداث في الأدب وما فيها من أشكال: رمزية/سخرية/فانتازيا، وطريقة التقديم واللغة المستخدم تجعل المتلقي يتقبل الفكرة بعد أن تم تغليفها بالطابع الأدبي.
في قصة "البحث عن معتوه" يكشف لنا القاص حقيقة واقعنا البائس، لكن الفنية التي قدمت بها القصة مررت هذا الواقع بأقل الأضرار النفسية على المتلقي، حتى أنها جعلته يستمع بالشكل الذي قدمت به، تبدأ القصة بمشهد بين "المعتوه" والحسناء، وهذا بحد ذاته عامل جذب للمتلقي، حيث يدور الحديث بينهما بصورة مثيرة:
"أمسكت بتلابيب قميصه وشدّت، قالت الحسناء: ما بك؟ مشدوه وغشاوة على عينيك حيث لم ترني!
هزّ رأسه، مبديا دهشته،
دفعته بعنف قائلة: أتريد أن أمزّق قميصك حتّى تنطق، ورسمت ابتسامة ساخرة،
تكلّم أخيرًا: مزّقيه من الأمام كي لا أجد عذرًا كما يوسف على أنه قدّ من دبر فنجى، أريد أن أحمل ذنبي كما جمل المحامل، وأشعر بثقل همومي الرّازخة"
نلاحظ أن هناك إيحاء يستخدمه "المعتوه" يتجاوز قصة يوسف وما فيها من رغبة جنسية، إلى ما هو أبعد وأعمق من علاقة شخصية، فهو يجد نفسه مذنبا، لأنه يعيش في هذا الواقع البائس.
إذن "الحسناء" من فتح باب الواقع، وهذه الفاتحة تكفي ليتقدم القارئ من القصة لمعرفة ما سيجري للمعتوه، بعدها تنسحب الحسناء التي تتحدث بلغة أنثوية حقيقة:
" أريدك بلا خطيئة وبلا حسنات كما أنت مجرّدًا من هواجسك عارياً من وساوسك، أتوق لوجدٍ يهطل من عينيك ليملأ عالمي كما عرفتك"
إذا ما توقفنا عند هذه اللغة سنجد لغة أنثى كاملة تريد رجلها، من هنا نجدها تستخدم "عاريا، ليملأ عالمي" حيث لا يشك القارئ بأنه أمام امرأة حقيقية، من هنا نستطع القول: إن القاص أجاد في استخدام لغة الشخصيات، وأعطاها حريتها للتحدث بلغتها هي وليس بلغه هو، وأيضا كان موفقا في فاتحة القصة التي جذبت المتلقي وجعلته ينشد بهذه الفاتحة الشيقة.
يبدأ المعتوه رحلته في (البحث) عن مراده المتمثل في الخلاص من واقعه البائس، إلى أن:
"التقى بمتصوّف ينشد لثورة الحلاّج، ويفسّر معنى الزّندقة، هي معبر للمعونات لمن نقتلهم بصمتنا"
وبهذا يكون المعتوه قد أكد الترابط الوثيق بين السياسي والديني ودورهما في القضاء على المعارضين، وكل حركة تسعى لتغيير الواقع أو التجديد فيه.
قلنا إن دور الأدب ليس تقديم الواقع كما هو، بل من خلال شكل أدبي ممتعة وجميل، يلتقي "المعتوه" بأحد السكارى ويحاوره، يرد المخمور بهذا القول:
"اشرب كي أنسى، ولكن هذا الهراء (مشيرًا إلى رأسه) يثقل حتّى لا أكاد أحمله"
طبعا الغاية من هذا الحوار تأكيد حال الاغتراب/الألم التي يعيشها كل من يفكر بهذا الواقع، وليس الغاية تبرير شرب الخمر، وهذا يقودنا إلى فكرة أبعد وأعمق، تتمثل في ضرورة حكمنا على الأفعال/الأشخاص ليس من خلال الشكل، بل من خلال الدوافع/ فالدوافع هي الأساس ليكون حكمنا/رؤيتنا/نظرتنا صابة وموضوعية.
السياسة تعني الكذب، النفاق، الخداع، وكل الشرور التي على الأرض نتيجة السياسة والسياسيين الذي يتقنون الكذب، يتحدث القاص عن المعتوه ونظرته إلى السياسة في هذا المقطع بقوله:
" يئس من حالته المزرية وتحسّس مواقع الوجع التي تسكن قاع المخيخ، فيها لزوجة أخبار السّياسة وظاهرة النّفاق والتّسحيج والمنفخة والعرط، صوت ضجيج ويصرخ بائع: "فستق فاضي""
نلاحظ أن الفكرة عن السياسي والسياسي سوداء وحتى قاتمة، لكن ليس المهم الفكرة فقط، بل الألفاظ التي جاءت بها، فهناك كم كبير من الألفاظ القاسية التي توصل فكرة سيئة عن السياسي والسياسيين، وهذا ما يوصل الفكرة للقارئ من خلال مضمون القصة ومن خلال الألفاظ التي جاءت في هذا المقطع.
المفصل في القصة لقاء المعتوه مع الصوفي، بمعنى أن هناك عملية بحث عن الحقيقة، من هنا كان بائع الفستق هو الحقيقة/المخلص/الكاشف للحق:
"ماذا تريد يا معتوه؟
أجابه: أبحث عنك أو عنّي عن معتوه، وضحكا.
قال بائع الفستق: أكيد وجدته مشيرًا نحوي، انتظرني ريثما أبيع كلّ ما عندي"

نلاحظ أن الحوار بين المعتوه وبائع الفستق، يمثل بداية الخلاص للمعتوه مما هو فيه من الم وضياع، فالحقيقة تبدأ بالانكشاف والوضوح ليس للمعتوه فحسب بل للقارئ أيضا الذي تصله حقيقة السياسي بصورة ساخرة.
أثناء تجوال المعتوه مع بائع الفستق يلتقيان برسام، الذي يمثل المعري/الفاضح لكل أشرار وفساد السياسيين:
"من منكما يمتطي هذا الحصان؟
بائع الفستق مشيرًا: هذا السّياسيّ، وضحك،
التفت متعجبًّا: ماذا؟
السّياسيّ من يمتطي النّاس، والرّسّام منعه بحيث لم يعد ممكنًا على الجدار،
ضحكوا جميعا، أشعل الرّسّام سيجارة ملفوفة وملطّخة بالألوان، وأشار عليه بالجلوس إلى جانبه،
جلس لكن عاجله بائع الفستق بوضع علبة الألوان أسفله،
انقلب على ظهره ضاحكًا: لقد جلست على علبة الألوان
والآن ستكون هناك لوحة على بنطالك من الخلف"
اللافت في نهاية القصة الجمع بين السخرية والفنتازيا، وأيضا تقديم حقيقة من يحكموننا ويتحدثون باسمنا ونيابة عنا.
وإذا ما توقفنا عند شخصيات القصة: "الحسناء، المعتوه، الفيلسوف، المتصوف، المخمور، الحشاش، بائع الفستق، الرسام، السياسي" نجدها بمجملها مظلومة ومقهورة أذا ما استثنينا السياسي الذي يتغذى ويعيش ويكبر من خلال خداع الأخرين، بمعنى أن كل أفراد المجتمع تعاني من هذا المرض/الوباء الخبيث المسمى سياسي.
القصة منشورة على صفحة القاص.
,