تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
جيلاني الهمامي
2024 / 2 / 21 - 00:03
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة
تاريخ أزمات
تنبيه
عندما يتبادر إلى ذهن الواحد منّا الكتابة حول تاريخ الحركة النقابية التونسية لا بدّ أن يطرح على نفسه السؤال التالي: ماذا يمكن أن أقدّم من إضافة في هذا المجال الذي يزخر في الحقيقة بكمّ هائل من المؤلفات (لنقابيين وساسة) ومن البحوث الأكاديمية والأطروحات الجامعية؟. السؤال نفسه طرحته وأنا أشرع في هذه المحاولة استجابة لطلب الإخوة في قسم المرأة والشباب العامل والجمعيات بالاتّحاد العام التونسي للشّغل.
من هذا المنطلق سأحاول من خلال هذه المداخلة تتبّع الخطّ العام لمسيرة الأحداث والتطوّرات التي عرفتها تجربة الحركة النقابية في بلادنا على امتداد أكثر من قرن والتوقّف عند كلّ منعرج من منعرجاتها بالقراءة والتحليل والتّأويل عند الاقتضاء والاستنتاج. وإني إذ أنحو هذا المنحى فلقناعتي بأنّ الكتابات التّاريخيّة السّرديّة كثيرة ومتوفّرة ولن آتي بالجديد في هذا الباب. وإني أدعو المشاركين في هذه الدورة التكوينية إلى طرح الأسئلة الأكثر إحراجا والتّجاسر على مجادلة حتى الأحكام التي باتت في نظرهم مسلّمة ومن قبيل الحقيقة التي لا تناقش. كما أحاول أن أثيركم جميعا للتّفكير جماعيّا وبصوت عال في مضامين وخصائص حركتنا النقابية وموروثها النضالي من الناحية الفكرية والسياسية والعملية لأنني أعتقد أنّ هذه الحركة باتت اليوم في حاجة ماسّة إلى حوار وجدال عميق يتجاوز مسلّمات الخطاب النقابي الرّسمي والتقليدي المتداول اليوم في الساحة النقابية التونسية.
وليست قناعتي هذه نابعة فقط من كوني مجرد منخرط في الاتحا ولم أعد اتحمل مسؤوليات فيه متحررا من مقتضيات الانضباط واحترام واجب التحفظ وإنما خاصة لأنني أعتبر أن منظمتنا في حاجة اليوم لأن تنظر إلى تجربتها ودورها ومردودها بكثير من الجرأة وفي حاجة لتفعيل سلاح النقد والنقد الذاتي على أحسن الوجوه.
وإني كمتابع من قريب لما تشهده السّاحة النّقابيّة من أحداث وتطوّرات في السنوات الأخيرة أسمح لنفسي منذ البداية القول أنّ الحركة النقابية في بلادنا – مثلها مثل بقية فصائل الحركة النقابية العالمية – تمرّ بأزمة حقيقية ولا تفعل الخطب الرسمية التبريرية لعديد الهنات ونقاط الضعف غير تعميق الأزمة أدركوا ذلك أو لم يدركوا.
إنّ الوفاء لما حمله لنا تاريخ الرّوّاد والمؤسّسين وعموم المناضلين النقابيين التونسيين وتضحياتهم يقتضي منّا اليوم أن نتساءل عن أسباب هذه الأزمة وأن نحدّد عناصرها عسانا نتمكّن من تصوّر المَخرَج الملائم في معالجتها. علما وأنّ هذه الأزمة كما سبق قوله هي أزمة عالمية طالت أعرق المنظمات النقابية في العالم وأنّ مظاهرها متعدّدة ومتشابكة بدءً من تراجع نسبة الانخراط بصورة مفزعة وصولا إلى العجز عن التأثير في ساحة الفعل الاجتماعي والسياسي.
وقد يكون من أفضل الأعمال التمهيدية لعمل دراسي طويل ومعمّق العودة إلى فهم واستيعاب خصائص ومميّزات حركتنا التي تختزن كنوزا من الدّروس والعبر.
1 – تقديم
تأثّر التّنظيم النقابي في بلادنا بالظروف التي أحاطت بميلاده وتطوّره وجعلته يتميّز بجملة من الميزات التي يمكن تلخيصها في:
أوّلا: ولدت الفكرة النقابية في تونس في ظرف اقتصادي واجتماعي وسياسي خاص حيث كانت بلادنا قد تحوّلت رسميا إلى مستعمرة فرنسية. وبانتصاب نظام الحماية (الاسم الملطّف لاستعمار بلادنا) تعرّض نمط الإنتاج التقليدي ماقبل الرأسمالي السائد إلى التدخل العنيف من قبل الرأسمالية الغازية وانطلق مسار التفكيك التدريجي للبنى الاقتصادية والاجتماعية للنظام القديم. وشُرع في تركيز محلّه نمط جديد مشوّه وخاضع في نشوئه وفي تطوّره إلى حاجيات المركز المستعمر في مستوى البنية الاقتصادية ولكن أيضا في مستوى علاقات وقوى الإنتاج الجديدة.
وقد تركّز النمط الجديد على بعض الأنشطة الصناعية والخدماتية الدخيلة مثل الصناعات الاستخراجية بالمناجم والنقل والمواني والبناء وقطاع الفلاحة. وكانت هذه الأنشطة هي المجالات الأولى لدخول نواة الطبقة العاملة التونسية إلى ساحة الإنتاج. وقد انحدرت هذه النواة من أبناء الريف المفقّرين والنّازحين إلى مراكز المدن والقرى المنجمية بعد استيلاء المعمّرين الأجانب على أراضيهم وكذلك من صغار الحرفيين الذين دمّرت مزاحمة المواد الفرنسية المصنّعة حرفهم وصناعاتهم ومن أفواج العاطلين والفقراء عموما.
فتطوّر علاقات الإنتاج في تونس لم يحصل إذن نتيجة تطوّر تاريخي طبيعي مثلما حصل في البلدان الأوروبية الصناعية. لذلك كان نشوء الطبقة العاملة التونسية كمّيّا وفي مستوى وعيها السّياسي الطبقي وعيا سياسيّا متأثّرا بهذه المعطيات الموضوعية التاريخية.
ثانيا: كان تركيز المشاريع الاقتصادية الاستعمارية الفرنسية في تونس يتطلّب تعبئة يد عاملة كافية عدديّا وضعيفة الكلفة. لكن المحدودية والنوعية لقوى العمل المحلية وحاجة الإدارة الاستعمارية لتكثيف العنصر الأوروبي والفرنسي بالخصوص لتسريع عملية "فرنسة" البلاد وشعبها جعلا سلط "الحماية" تفتح الباب لتنويع مصادر اليد العاملة بتونس وتستقدم الإطارات الإدارية والفنّيّة من فرنسا.
ورأى الأعراف الفرنسيون في السّماح بالتنظيم النقابي من العناصر المشجّعة للعمّال الفرنسيين للقدوم إلى تونس وكذلك من الوسائل الناجعة للمّ شملهم وتحبيبهم في البقاء فيها. لذلك سارعت السلط الاستعمارية سنة 1884 بإصدار أوّل قانون في تونس يسمح ببعث نقابات مهنيّة على أن تكون مشمولات القيادة فيها وإدارتها حكرا على العنصر الفرنسي. وفي السنة نفسها ظهرت نقابة "المؤسساتيين الفرنسيين" وبعدها بعشر سنوات أسس مدير جريدة "تونس الفرنسية" الاستعمارية ورئيس المعمّرين الفرنسيين بتونس نقابة "اتّحاد العمّال". وكان الهدف المعلن من ذلك حثّ اليد العاملة الفرنسية على القدوم إلى تونس وخلق التّفوّق العددي أمام العنصر الإيطالي والمحلّي من جهة أخرى.
ثالثا: تأسّست النقابات في البدء كما سبق قوله على يد العنصر الأجنبي وبإيعاز من السلطات الاستعمارية وحصرت حقّ القيادة والإدارة في العنصر الفرنسي تحديدا فيما لم يكن العمّال التونسيّون سوى جمهورا لتعزيز صفوف هذه الأطر وكتلة ضغط تتجاذبها النزعات السياسية والمذهبية المتصارعة داخل وبين التنظيمات النقابية الفرنسية التي ظهرت في تونس ما بين 1884 و1924.
ورغم أنّ عدد العمّال التونسيين قد تطوّر بسرعة نتيجة تعصير وسائل الإنتاج وانتشار نظام الأجرة وتوسّع دائرة الملكيّة الفرديّة وتقسيم العمل حتى أصبح عددهم في مطلع القرن يزيد عن 63 ألف عامل (1) بل وباتوا يشكّلون القوّة الأساسية في بعض فروع الإنتاج (2)، ورغم أنهم لعبوا دورا كبيرا في الإضرابات التي عرفتها البلاد سنوات 1900 و1904 و1909 ثم في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى (3) فقد ظلّوا ضحيّة التمييز العنصري والمعاملة الدونية بخصوص كلّ الحقوق والمطالب المادية وغير المادية التي رفعتها تلك التحركات والتي انتظروا أن ينالوا نصيبهم ممّا حقّقته من مكاسب.
رابعا: لذلك ومن خلال التجربة التي خاضها العمّال التونسيون على امتداد أربعين سنة تقريبا داخل النقابات الاستعمارية (1884 – 1924) توصّلوا إلى القناعة بضرورة الانتظام خارج هذه النقابات وإدارة شؤونهم بأنفسهم وباستقلالية عنها للدفاع عن خصوصياتهم. ومن هذه الزاوية يمكن اعتبار تجربة عموم العملة التونسيين دلالة على بداية وعي الطبقة العاملة التونسية بذاتها وعلى استعدادها للدّفاع عن ذاتها وللتمرّد على علاقات الاستغلال الاستعمارية. وضمن هذا التحوّل النوعي في وعيها استشعرت أهمية الإضراب كشكل للنضال والنقابة كإطار لتنظيم صفوفها في المعركة الاقتصادية والسياسية أيضا بما أنّ المطالبة بالاستقلال النقابي صيغت كوجه من أوجه المطالبة بالاستقلال السياسي والوطني وجزء منه.
خامسا: ولكنّ هيمنة المدرسة النقابية الفرنسية طوال 40 سنة رسّخت جملة من المفاهيم في صفوف العمّال التونسيين وأثّرت فيهم بشكل كبير بحيث لم يكن بمقدور الدعاية الفكرية والسياسية للعنصر البرجوازي الصغير الثوري محو هذه المؤثرات تماما بل اضطرّ أحيانا كثيرة إلى التأقلم معها ومسايرتها. وتتشابك في هذه المفاهيم النزعة الفوضوية مع الدعوات الإصلاحية حتى تبدو استراتيجية المنظمة النقابية خليطا من الأطروحات المتناقضة. فعلى امتداد تاريخ الحركة النقابية التونسية عادة ما يقع التوليف بين المطلبية الاقتصادية الخالصة وبين الأطروحات السياسية (بما في ذلك نظرية الحياد النقابي) المنحازة طبقيا لمشاريع البرجوازية التي لا تخفي انخراطها في المشاريع السلطويّة باستحضار كمّ كبير من المبرّرات المتنوّعة.
سادسا: غير أنه ورغم كلّ المآخذ والانتقادات فإنّ تاريخ الحركة النقابية التونسية لم يخل من كفاح مرير ونضال مستميت من أجل المبادئ والأهداف النبيلة، تمحورت في البداية حول الاستقلال عن النقابات الفرنسية الاستعمارية وطرح المسألة الوطنية في عهد الاستعمار المباشر. ثمّ حول الاستقلالية عن الحزب الحاكم وعن الدولة، وحول الديمقراطية والنضالية فيما بعد في ظل الدولة التونسية وهيمنة الخط البيروقراطي.
وقد اتّخذ العمل من أجل هذه الأهداف طابعا كفاحيا متجذّرا في عدّة أطوار من تاريخ الحركة ممّا عرّضها في أكثر من مرّة إلى أزمات حادة نتيجة القمع الاستعماري أو قمع السلطة التونسية بعد 56. ولو نظرنا في تاريخ الحركة النقابية التونسية لوجدنا أنه منذ عشرينات القرن الماضي لم تخل أية عشرية تقريبا من أزمة نقابية. أزمة جامعة عموم العملة التونسيين في 1925 ثم في 1938 وتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946. وكان ميلاده نتيجة أزمة نقابية أفرزت هذه المرة مراكمة إيجابية لصالح الطبقة العاملة لا ضدها كما هو الشأن بالنسبة إلى بقية الأزمات. ثم جاءت أزمة 1957 وانشقاق الحبيب عاشور وتأسيس "الاتحاد التونسي للشغل" وأزمة الستينات وإقالة عاشور والزجّ به في السجن وتولية البشير بلاغة مكانه بعد أن قرّر مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري (مؤتمر بنزرت 1964) تحويل "المنظمات القومية" رسميا إلى هياكل منضوية عضويا تحت الحزب ومجرد "تشكيلات مختصة في قطاعها المهني" ومطالبة بالسير على "طريق الاشتراكية الدستورية المعبّرة عن الإرادة الشعبية". وتلا ذلك أزمة 78 وأحداث 26 جانفي الأليمة ومحاولة بعث منظمة نقابية جديدة "قوى العمل التونسية" FOT - Force Ouvriere Tunisienn ثم أزمة 1984 وانبعاث "الاتحاد الوطني للشغل" UNTT ومواجهة سنة 1985 التي انتهت بانقلاب ما يسمّى بـ"الشرفاء" وأزمة التسعينات وإقالة الأمين العام السابق اسماعيل السحباني وظهور ما يسمّى بـ"حركة التصحيح النقابي".
وبناء على هذه السلسلة الطويلة من الأزمات أمكن القول إنّ تاريخ الحركة النقابية التونسية يكاد يكون تاريخ أزمات، المهمّ فيها أنّ إرادة الاستقلالية - بصرف النظر عن النوايا والخلفيات والأغراض والمناورات التي حفّت بها سواء عن أطر المستعمر أو عن هيمنة الدولة - كانت هي تقريبا المحرّك الأساسي. والواضح أيضا أنّ أسلوب القمع والتعسّف سواء في عهد الاستعمار المباشر أو بعد 56 كان دوما المسؤول عن هذه الأزمات والمعرقل الرئيسي لتطوّر الحركة النقابية التونسية ونضال الطبقة العاملة عموما.
قراءة في أهمّ أطوار النّضال النّقابي في تونس:
الحصيلة بين الإيجابي والسّلبي
2 – تجربة جامعة عموم العملة التّونسيّين
2 – 1 – هاجس الاستقلال وتأسيس الهويّة
انخرط العمّال التونسيّون منذ بداية القرن في النقابات الفرنسية العاملة بتونس. ورغم كلّ التّمييز والدونيّة المسلّطين عليهم اكتشفوا داخل هذه الأطر تقاليد العمل النقابي وتلقّنوا دروس المطالبة والاحتجاج والإضراب وشكّلوا قاعدة عريضة وسندا قويّا للتّحرّكات التي شهدتها قطاعات السكك الحديدية والبناء والدهن والنجارة والمواني والبريد والعجين الغذائي والمناجم والتبغ والتي شملت تونس العاصمة وصفاقس وبنزرت ومنزل بورقيبة (فيري فيل آنذاك) والكاف وماطر.
ولأنهم لم يجنوا من ذلك مكسبا يُذكر رغم تضحياتهم الجسيمة بدأ العمّال التونسيون يتحسّسون تدريجيا الطريق لصياغة مطلبهم في المساواة مع الأجانب تحت شعار "لعمل متساو أجر متساو". غير أنّ النقابات الفرنسية وخاصة "الكنفدرالية العامة للشغل" (CGT) الواقعة تحت تأثير الاشتراكيين الفرنسيين لم تكن تكترث بمطالبهم بل لا تتوانى عن التشكيك في تحرّكاتهم المستقلّة حول مطالبهم الخاصة (4) مدّعية أنّ تلك التحرّكات إنما تقف وراءها "نزعات دينية ووطنية ضيّقة" ومن شأنها أن "تضرّ بالتضامن الأممي للعمّال".
فمع انتهاء الحرب العالمية الأولى كانت الأوضاع المادية قد ساءت إلى حدّ لا يطاق حيث تفاقم غلاء المعيشة وتصاعدت نسب البطالة وتراجع الإنتاج الفلاحي بسبب الظروف المناخية الصعبة وتصدير المحاصيل الزراعية إلى فرنسا، ممّا دفع العمال الأجانب والتونسيين على حدّ السواء إلى العودة إلى الاحتجاجات والإضرابات بصورة مكثّفة. وكانت السكك (التراموي) والمناجم أنشط القطاعات، وكان العنصر التونسي يحتلّ فيها مكانة عددية هامة أضفى على تحركاتها نجاحا كبيرا. وعرفت هذه القطاعات وغيرها سلسلة من الإضرابات اندلعت أيام 19 و20 أفريل 1919 وتكرّرت في أفريل 1920 وفي فيفري 1921.
وإلى جانب هذه الأوضاع الداخلية كانت الأوضاع الدولية تشهد تغيّرات كبرى أهمّها:
- ظفر الثورة الاشتراكية في روسيا وانتشار صيتها في الأوساط العمالية في العالم وفي البلدان العربية خاصة وقد آلت الامبراطورية العثمانية إلى التفكّك.
- إعلان ولسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية - الامبريالية الصاعدة - عن مبادئه المنادية بحقّ تقرير المصير، تلك الوعود التي رأى فيها قادة الحزب الدستوري التونسي أملا جديدا في الاستقلال.
- صعود تجمّع قوى اليسار (الحزب الاشتراكي) في فرنسا للحكم، الأمر الذي غذّى مرّة أخرى أوهام قادة الحزب الدستوري في إمكانية التوصّل إلى تسوية مع المستعمر بخصوص استقلال البلاد.
- انبعاث الأمميّة الشيوعية الثالثة والإعلان عن تأسيس فرع لها في تونس.
نتيجة لكلّ هذه التطوّرات، وخاصة الحركة الإضرابية المكثّفة، نشطت في صفوف المثقّفين التونسيّين منذ بداية العشرينات حركة نقاش واسعة حول كيفيّة مساندة الحركة العمّالية. فانقسموا بين منادين بتطوير العمل السياسي الثوري الذي يطرح قضية الاستعمار الأجنبي ومهمّة الاستقلال الوطني (فرع الأممية الشيوعية بتونس والحزب الحر الدستوري) وبين داعين إلى الإصلاح الاجتماعي". وكان من بين هؤلاء الطاهر الحداد ومحمد علي الحامي العائد لتوّه إلى أرض الوطن بعد فترة طويلة من الغربة قضاها بين السعودية وتركيا وألمانيا.
ولم ينتظر هؤلاء طويلا للشروع في وضع أفكارهم الإصلاحية موضع تنفيذ. فبعثوا جمعية "التعاون الاقتصادي التونسي" كمدخل لمشروع الإصلاح الاجتماعي. غير أنّ حدثا هامّا طرأ في الأثناء أعطى مجرى آخر للأحداث وهو اندلاع إضراب عمّال الرّصيف بتونس في أوت 1924 وتبعته إضرابات مماثلة في مدينة بنزرت. وعن لجنة تنظيم الإضراب التي تمّ تشكيلها آنذاك انبثقت نقابة مستقلّة كان العمّال التونسيون كأنما يتصيدون الفرصة المناسبة لبعثها بما أنّ جزء هامّا منهم ظلّ يحترز من الانضمام إلى فرعي الكنفدرالية العامة للشغل الفرنسية CGT التابعتين واحدة للحزب الاشتراكي والثانية للحزب الشيوعي الفرنسي (5).
في مثل هذه الأجواء تأسّست أوّل نقابة مستقلّة للعمّال التونسيين وسرعان ما انتشرت في تونس (10 نقابات) وبنزرت (6 نقابات) وفي صفاقس وسوسة وماطر ضمّت إلى جانب العمّال (الرصيف والحبوب والتراموي والاسمنت والآجر والمناجم) أصحاب الحرف التقليدية المهدّدة بالتلاشي والذوبان (الشواشين ونساجي الحرير والبرانسية والبلاغجية الخ...). وقد ترجم الفصل الأول من مشروع القانون الأساسي لجامعة عموم العملة التونسيين هذا التوجّه إذ نصّ على أنها تهدف (أي النقابة الجديدة) إلى جمع الأجراء جميعهم في "دائرة اقتصادية للدفاع عن مصالحهم الأدبية والمادية".
وقد أثارت هذه التجربة مخاوف الاوساط السياسية والنقابية الفرنسية الاستعمارية، مرّة بدعوة أنها حركة "تعصّب ديني وعرقي" وأخرى بدعوى أنها مؤامرة دستورية شيوعية لإثارة البلبلة الاجتماعية وتقسيم صفوف الطبقة العاملة في تونس (6). لكنها وفي الجهة المقابلة تحوّلت إلى مركز جاذب للقوى السياسية والمثقفة المحلية. إذ التحق بها عناصر الجناح الراديكالي من الحزب الحر الدستوري (الدستوريون الثوريون) ومناضلو فرع الأممية الشيوعية في تونس الذين وجدوا في الجامعة العامة لعموم العملة التونسيين الإطار المجسّد لأفكارهم الاجتماعية وللجبهة الوطنية التي كانوا ينادون بها. وقد بذل محمد علي الحامي زعيم هذه التجربة جهدا كبيرا لإقناع كلّ هذه الأوساط للالتحاق بالمنظمة النقابية الوليدة دون أن ينتابه أدنى خوف من هيمنة الأحزاب عليها ولا من تسييسها.
لم تستغرق تجربة جامعة عموم العملة التونسيين سوى بضعة أشهر (أوت 1924 – جانفي 1925) حتى هجمت عليها آلة القمع الاستعمارية لتقضي عليها وتحاكم قادتها بتهمة "التآمر على أمن الدولة" ونفيهم عن "التراب التونسي وتوابعه" مخمدة بذلك أوّل تجربة نقابية تونسية مستقلة.
إنّ هذه التجربة على قصر الفترة الزمنية التي استغرقتها لمليئة بالدّروس والعبر. ومن أبرز ما يجب أن نستقيه منها هو أنّ جامعة عموم العملة التونسيين:
- شكّلت أوّل مدرسة تمرّس فيها العمّال التونسييون على النضال النقابي المستقل عن الأغراض والتوظيف الأجنبي ومكّنتهم من كشف القناع عن الشعارات الكاذبة والمخادعة والقطع مع الخط البيرقراطي السائد في النقابات الفرنسية ومع وهم الوحدة المغشوشة التي كان يستعملها قادة هذه النقابات الاستعمارية حول الاشتراكية والتضامن الأممي، وهو ما أكسب العمّال التونسيين آنذاك ثقة لا متناهية في قدراتهم وفتحت لهم الطريق للتفكير في مصالحهم الخاصة لتجذير النضال الوطني ضد المستعمر.
- ولدت في أجواء نضالية وإجابة عن حاجة الحركة الإضرابيّة العفويّة وقتها فنظّمتها وأطّرتها بل وأعطتها بعدها الكفاحي والوطني واستحقت بذلك ثقة الطبقة العاملة التونسية الوليدة التي سرعان ما قفزت بفضل جامعة عموم العملة إلى صدراة الأحداث وأصبحت أكثر القوى الاجتماعية تأثيرا في الساحة السياسية في تونس.
- وفّرت الإطار المناسب لترجمة حالة الغضب الشعبي ولتفعيل إرادة الاحتجاج ولتجاوز السقف المطلبي الإصلاحي وأساليب عمل النخبة التي اتّبعتها الأحزاب السياسية (الحزب الحر الدستوري والحزب الإصلاحي) ومكّنت بعض الأحزاب الأخرى من أداة ميدانية للانغراس في الطبقة العاملة وممارسة برامجها الثورية (فرع الأممية الشيوعية).
- أقامت الدّليل على أنّ العمل النقابي والنشاط السياسي أمران متلازمان يحتاج الواحد منهما الآخر. وقد دعا محمد علي الحامي بوعي وبإلحاح الدستوريين والإصلاحيين والشيوعيين على حد السواء إلى الانخراط في الجامعة والمساهمة في نضالها مفنّدا بذلك نظرية حياد النقابات والخوف المرضي من تعاون النقابات مع الأحزاب السياسية الثورية والتقدمية.
- جسّدت بوضوح المعنى الحقيقي والعميق للاستقلال عن الأعداء الحقيقيين للعمّال التونسيين وهم السلطات الاستعمارية وهياكلها السياسية والنقابية حملة المشروع الاستعماري دون ان يعني ذلك حيادها في الصراع الاجتماعي الجاري في تونس آنذاك أو استقلاليتها حيال الأحزاب السياسية التي تلتقي معها حول بعض الأهداف والمطالب ودون أن تفرّط في استقلال قرارها الذي تستمدّه من قواعدها وهياكلها (قرارات المضربين آنذاك خاصة).
أمّا ما يمكن أن يعاب على تجربة جامعة عموم العملة التونسيين التي لم يسعفها الوقت كي تعالج نقائصها فهو:
1 – انجرارها وراء الحركة الإضرابية العفوية والانتقال فجأة من مشروع بناء "جمعية الاقتصاد التونسي" إلى بعث نقابة ربما دون تهيئة ظروف أفضل لحمايتها من الاجتثاث.
2 – الانجرار مرّة أخرى وراء الإضراب العفوي لعمّال حمام الأنف المفتوح الذي اتّخذت منه السلطات الاستعمارية ذريعة لشنّ هجومها على الجامعة للقضاء عليها.
3 – تأسيس الجامعة في العلن وعلى مرأى ومسمع من سلطات الاحتلال الأمر الذي سهّل على هذه الأخيرة الإجهاز عليها بصورة مبكّرة.
لكن ومهما كانت السلبيات فإنّ هذه المحاولة الجريئة للطبقة العاملة التونسية في الانتظام نقابيا بصورة مستقلة والتي خلّفت هزيمتها مرارة كبيرة في نفوس عموم عمّال تونس وشعبها قاطبة وخسارة في صفوف الحركة العمّاليّة خلقت للحركة رصيدا ومثالا سيظلّ حيّا على امتداد سنوات طويلة إلى غاية أن أذعنت السلطات الاستعمارية واعترفت للعمّال التونسيين بحقّ الانتظام النقابي المستقل سنة 1932.
2 –2 – تجربة جامعة عموم العملة التّونسيّين
بين النّزعة الاقتصادويّة وتسلّط حزب الدّستور
دخلت الحركة الاجتماعية مباشرة بعد القضاء على جامعة محمد علي في حالة الرّكود والتّفكّك رغم محاولات من تبقّى من قادة الجامعة وخاصّة الطاهر الحداد لإعادة الكرّة. وبلغ تعسّف سلط الاستعمار ذورته سنة 1926 بأن أعلنت حالة الحصار العامة. ولم يجد الكثير من العمّال من سبيل غير العودة إلى الانخراط في النقابات الفرنسية من جديد.
لكنّ إضرابات عمّال السّكك والمواني سنوات 1928 و1931 كردّة فعل على آثار الأزمة الاقتصادية للنظام الرأسمالي المعروفة بأزمة 1929 والتي انعكست على تونس أسوأ انعكاس أحيت النفس النضالي من جديد وفتحت له باب الأمل على مصراعيه وكانت من الأسباب المباشرة التي جعلت السلطات الاستعمارية تعترف للعمّال التونسيين بحقّ الانتظام النقابي المستقل (صدور أمر في ذلك بتاريخ 16 نوفمبر 932 ) فانطلقت حملة تكوين النقابات التونسية من جديد.
ومن مطلع سنة 1936 حتى موفّى السنة الموالية شهدت البلاد موجة قويّة من الإضرابات العمّالية شنّها عمّال مغازة مونوبري ثم عمّال المناجم بالجنوب وأعوان الضيعات الفلاحية بجندوبة وبوسالم وباجة ومنجم الجريصة ومعمل الآجر بمنزل جميل.
وقد ردّت سلطات الاحتلال على هذه التحرّكات بقمع غير مسبوق مستعملة قوّات الجيش والبوليس ممّا أدّى إلى سقوط 17 قتيلا و30 جريحا في المظيلة وقتيلين و4 جرحى في ضيعات الشمال وعدد كبير من الموقوفين والمطرودين من العمل.
وتزامنت هذه التحرّكات مع جملة من الأوضاع السياسية المحلية والدولية التي أفضت إلى انبعاث جامعة عموم العملة التونسيين في نسختها الجديدة بقيادة بلقاسم القناوي. ومن أهمّ هذه الأوضاع نذكر:
- التطوّرات الحاصلة في صلب الحزب الدستوري وانشقاق الشق الراديكالي إثر مؤتمر قصر هلال (2 مارس 934) الذي أصبح يتّبع طرق عمل جماهيرية وتعبويّة ميدانية جديدة كسبت له عددا كبيرا من المناضلين والتونسيين المحبّين للاستقلال والتّحرّر.
- اندماج شقّي الكنفدرالية العامّة للشّغل الفرنسية إثر مؤتمر تولوز لتوحيد الحركة النقابية وكان ذلك فرصة لوجود نقابي شيوعي تونسي في الهيئة القيادية بتونس (حسن السعداوي).
- فشل تجربة حكومة "الجبهة الشعبية" في فرنسا وفقدان الأمل فيها بعد أن تنكّرت لوعودها بخصوص مطالب حركة التحرّر في المستعمرات الفرنسية ومطالب الحركة الوطنية في تونس الأمر الذي دفع الحزب الحر الدستوري الجديد إلى مساندة الحركة الاجتماعية ومساندة مسعى إحياء الجامعة من جديد.
- أمّا على المستوى الدولي فقد بدأ الاستقطاب بين الحركة الديمقراطية والشيوعية من جهة والفاشيّة الصاعدة من جهة ثانية يتصاعد ويشتدّ واتضحت نوايا النازيين الألمان والفاشيست الايطاليين في إشعال فتيل الحرب.
في ظلّ هذه الأجواء العامّة المحلية والدولية اعتبر النقابيون التونسيون أنّ الظرف بات ملائما لإعادة إحياء تجربة جامعة عموم العملة التونسيين فشرعوا في ذلك ببادرة من رفاق محمد علي الحامي المتبقّين وبعض الدساترة والشيوعيين في الجلسات التمهيدية سنة 1936 وانتخبوا مكتبا مؤقتا برئاسة محمد الخميري، فيما أُسندت الكتابة العامة إلى الطاهر بن سالم وعلالة العويتي كمعاون له.
وفي 27 أفريل 1937 تأسّست رسميّا الجامعة وتولّى الدستوري بلقاسم القناوي أصيل الحامة الكتابة العامة بمساندة شقّي الجزب الدستوري فيما وقف ضدها الاشتراكيون والشيوعيون والسلطات الاستعمارية.
رافق هذا الحدث النقابي الهام استمرار الحركة الإضرابية التي ارتكز عليها الحزب الدستوري لإعلان الإضراب العام بالعاصمة يوم 29 أكتوبر 1937 مساندة للحركة الوطنية الجزائرية والمغربية غير أنّ الكاتب العام الجديد للجامعة، بلقاسم القناوي، رفض تبنّي هذا القرار (7) ثمّ اتخذ موقفا سلبيا من المظاهرة التي نظّمها الحزب احتجاجا على نفي حسن النوري إلى الجزائر بلده الأصلي، هذه المظاهرة التي سقط فيها 6 قتلى و20 جريحا. واندلع بذلك خلاف حاد بين الكاتب العام وقيادة الحزب الذي ينتمي إليه الحزب الحر الدستوري الجديد.
وبعد فشل حزب الدستور في إقناع القناوي استقرّ الرأي لديهم على ضرورة عزله وتعويضه بالهادي نويرة على رأس الجامعة وضغطوا من أجل عقد مؤتمرها الاستثنائي في 30 جانفي 1938 الذي جنّد خلاله الدساترة نوّابهم فيه (8) لحمل القناوي على الانسحاب، وهو ما تمّ فعلا. فانتخبت هيئة جديدة مضيّقة بخمسة أعضاء أبرزهم الهادي نويرة وباش طبجي. ردّ القناوي على ذلك باللجوء إلى المحكمة وتقدّمت الهيئة الجديدة بشكاية مضادة أمام نفس المحكمة. وبعد صراع مرير أفقد الكثير من النقابيين الثقة في التجربة الجديدة فعاد البعض منهم إلى النقابات الفرنسية وندّد الدساترة القدامى والشيوعيون بسلوك الحزب الدستوري الجديد وهكذا سارت الجامعة رويدا رويدا نحو العزلة حتى انتهت التجربة إلى فشل جديد فتلاشت.
وبقدر ما أثار فشل تجربة جامعة عموم العملة الأولى الحسرة والمرارة في صفوف العمّال التونسيين وعموم الشعب فقد خلّف فشل تجربتها الثانية نوعا من الامتعاض نظرا للانحراف الاقتصادوي الإصلاحي الذي طغى على خطّها النقابي من جهة ونظرا إلى التسلّط الذي مارسه الحزب الدستوري الجديد عليها ومحاولاته تدجينها دون مراعاة مقتضيات استقلال قرارها وديناميتها الداخلية كمنظمة نقابية.
لقد فشلت هذه التجربة لأنها لم تتوفّق إلى الطريقة الصّحيحة في التّعاطي مع مسألة علاقة النقابي بالسياسي رغم أنّ الظروف التي تأسّست فيها كانت أفضل ممّا كانت عليه ظروف نشأة تجربة محمد علي. فالطبقة العاملة توسّعت صفوفها وتدعّمت بالآلاف من الوافدين الجدد عليها من فقراء الأرياف النازحين إلى المدن. أمّا الحركة الإضرابية فقد تصاعدت بقوة وارتفع عدد الإضرابات إلى 1271 إضرابا خلال ثلاث سنوات (1936 – 1939).
أما من الناحية السياسية فقد تطوّرت الحركة الوطنية وتحوّلت إلى سند سياسي ومعنوي جدّي وذي وزن رغم الموقف السلبي الذي اتخذه الحزب الشيوعي التونسي عندما أعلن عن تجميد كل أنشطته السياسية المناهضة للاستعمار الفرنسي بتعلة الالتزام بالجبهة المعادية للفاشية.
لكن ومهما كان من أمر فإنّ فشل التجربة لم يقتلع من قناعة الطبقة الطبقة العاملة التونسية فكرة النقابة المستقلة ولم يؤثّر في إيمانها القويّ بها. هذه الفكرة التي ظلّت تختمر في الأذهان حتى منتصف الأربعينات لتتجسّد في ميلاد الاتّحاد العام التّونسي للشّغل.
3 – الاتّحاد العام التّونسي للشّغل: رهانات جديدة وتجاوز لتعثّرات الماضي
3 – 1 – الطّور الأوّل: الرّيادة والتّأسيس (1946 – 1952)
تأسّس الاتّحاد العام التونسي للشغل يوم 20 جانفي 1946 لاستكمال مسيرة بعث نقابات مستقلة دشّنتها النقابة المستقلة لعمّال شركة صفاقس – قفصة للمناجم بالجنوب يوم 16 جانفي 1944 والتي تلاها في أكتوبر من نفس السنة بعث "اتحاد النقابات المستقلة" بالجنوب. ثم "اتّحاد النقابات المستقلة" في الشمال في ماي 1945. وتعزّزت صفوفه بالتحاق "الجامعة العامة للموظّفين التّونسيين" التي سبق أن تأسّست سنة 1936.
كانت الظروف العامّة في البلاد أثناء الحرب العالمية الثانية – وقد كانت تونس مسرحا لبعض مواجهاتها – قد شهدت تدهورا على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية خاصة. وخلّفت هذه الظروف انتشارا كبيرا للفقر والبطالة والإملاق الاجتماعي، وهي القاعدة المادية التي هيّأت لتطوّر الحركة الوطنية ولظهور النقابات المستقلة من جديد. غير أنّ عوامل أخرى سياسية واقتصادية دوليّة ومحلّيّة كانت ساهمت أيضا في حصول هذه التّطوّرات، ومن أهمّ هذه العوامل نذكر:
- صعود نجم الامبريالية الأمريكية كقوّة عظمى جديدة في العالم تعمل على مدّ خيوط الاتّصال مع حركات التّحرّر في المستعمرات الفرنسية والبريطانية (9) مروّجة شعارات حول التّحرّر والديمقراطية بغاية تحقيق هدفين أساسيّين هما مزيد محاصرة الامبراطوريات القديمة (فرنسا وبريطانيا) من جهة والتصدي مبكّرا للمدّ الشيوعي الذي أصبح يمثّل خطرا حقيقيا على النظام الرأسمالي العالمي بعد النصر الذي أحرزه الاتّحاد السوفياتي ضدّ النّازيّة.
- خروج فرنسا منهكة من الحرب ومهزومة في جنوب شرق آسيا واتّجاهها لتحويل استثماراتها نحو افريقيا أساسا خاصة في ميادين الفلاحة والصناعات الاستخراجية والتحويلية لتمويل اقتصادها وإعادة بنائه وهو ما ساعد في تونس على توسيع نطاق العمل المأجور في الريف وتطوير الحجم الكمّي للعمّال في التركيبة الطبقية للمجتمع التونسي التي أصبحت الفئات المتوسطة هي العنصر الغالب عليها.
- سقوط النّقابات الفرنسية في تونس تحت تأثير الشيوعيّين الذين خسر حشاد أمامهم الانتخابات في مؤسّسة عمله لذلك عندما انفصل عنها وجد الدّعم من الحزب الدستوري ومن الاشتراكيّين الفرنسيّين أيضا.
لذلك وفي مثل هذه الظروف انطلقت حملة بعث النقابات المستقلة كاستجابة إلى التطورات الحاصلة طوال فترة الحرب. ولعلّ ما سهّل انتشارها أيضا هو اتّباعها – النقابات الأولى خصوصا وحتى الاتحاد العام التونسي للشغل إلى غاية مؤتمره الوطني الثالث (1948) – سياسة مطلبيّة سلميّة لا تبدي أيّة مناهضة للاستعمار الفرنسي (10) وهو ما جعل السّلطات الاستعمارية ربما تتساهل مع نشاط النقابات المستقلة والاتّحاد العام في سنواته الأولى (11).
ولعلّ التركيبة الاجتماعية التي طغت على الاتّحاد منذ تأسيسه كانت هي الأخرى من الأسباب التي أثّرت في توجّهاته هذه، ذلك أنّ عدد العمّال الفلاحيّين الموسميّين وأصحاب الحرف والأعمال الحرّة والموظّفين كان لهم وزن كبير كمنخرطين. وكان وزن العناصر المثقّفة من أصول برجوازية صغيرة وناشطة ضمن الحزب الدستوري الجديد مؤثّرا في تركيبة التشكيلات النقابيّة القيادية مركزيا وقطاعيا، الأمر الذي سمح لها بالتأثير في توجّهات النّقابة الجديدة.
لكن وبعد حوالي ثلاث سنوات فقط من التأسيس وتحقيق درجة محترمة من الانتشار والتوسّع بدأ الاتّحاد العام التونسي للشغل في تجذير خطابه وتصعيد أعمال المقاومة الاجتماعية فقاد الإضرابات التي دام بعضها أشهرا (إضراب عمّال الفلاحة ببوسالم مثلا) وكلّ المواجهات وضروب الاحتجاج في أكثر من مكان بالبلاد وتبنّى منذ مطلع الخمسينات الكفاح المسلّح الذي أذكاه التحاق عمّال المناجم وعمّال الفلاحة أكثر خاصة بعد اغتيال زعيهم النقابي فرحات حشاد.
لقد تحوّل الاتّحاد إلى موقع قادة الحركة الاجتماعية والوطنية بسرعة نظرا إلى الصّيت الذي بات يتمتّع به لا فقط في صفوف الكادحين وإنما أيضا لدى عامة الشعب. وما كان له بلوغ تلك الدرجة من الإشعاع والمصداقية والتأثير لولا نجاحه، على خلاف التجارب السابقة، في معالجة العلاقة بين النضال النقابي والنضال السياسي والمسألة الوطنية على وجه الخصوص. وقد يكون سلوك الحزب الدستوري - الذي تعامل هذه المرة مع المنظمة النقابية بكلّ ذكاء وبراغماتية بعد أن ضمن تواجدا قويا داخلها واطمأنّ إلى حدّ بعيد على نهجها المعادي للشيوعية مستفيدا في ذلك من دروس التجارب السابقة - هو الذي يسّر أيضا على الاتّحاد المهمّة لبلوغ هذا النجاح.
لقد أحسن الاتّحاد طوال هذه الفترة المزج بين الأفكار النقابية الاقتصادية الإصلاحية التي تعكس في الأساس مؤثّرات نزعة الحياد النقابي والاستقلالوية السياسية ورفض مقولات الصراع الطبقي والتضاد بين رأس المال والعمل والانتصار للعالم الرأسمالي "الحر" (خروجه من الجبهة النقابية العالمية FSM والتحاقه بالكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة CISL) وبين تجذّره في النضال الاجتماعي والوطني ضدّ أرباب العمل والسّلطات الاستعمارية. وكان لحشاد في هذا التّمشّي الدّور الأساسي والحاسم.
لذلك وبالنّظر إلى الخطورة التي أضحى يمثّلها لم يتوان غلاة اليمين الاستعماري في اغتياله لإرباك المنظمة وبثّ الاضطراب في صفوفها وفي أقل الأحوال التخلّص من شخصه المقلق. وبوفاة حشّاد أسدل الستار على مرحلة لتبدأ أخرى جديدة من الصراع بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الدستوري من جهة ثمّ بينه والدولة الجديدة بكلّ أجهزتها من جهة ثانية.
3 – 1 – الطّور الثاني: وحدة وصراع بين مساعي التّدجين وإرادة الاستقلاليّة
خلّف رحيل حشاد فراغا كبيرا في قيادة الاتّحاد استغلّته العناصر البرجوازية الصغيرة من قادة جامعة الموظفين المشبعين بالنهج السياسي وباستراتيجية الحزب الدستوري الذي أصبح يخطّط فعلا لقيادة مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر والاستحواذ على دواليب الدولة التونسية الناشئة. وبما أنه لم يكن من السّهل التّغاضي عن الدور الذي سيلعبه الاتّحاد في هذه المرحلة المرتقبة وفي ما سيتبعها اتّجهت تكتيكات الحزب الدستوري وبصورة مبكّرة إلى احتواء المنظّمة النّقابيّة.
عمليّا استدعت الهيئة الإدارية للاتّحاد أحمد بن صالح ممثّل الاتّحاد في "السيزل" ليتولّى الأمانة العامة مكان الشهيد فرحات حشاد وذلك بصورة مؤقّتة إلى غاية انعقاد المؤتمر الخامس في جويلية 1954 عسى أن يُنتخب رسميّا في مثل خطته هذه. وصدرت لوائح هذا المؤتمر على درجة كبيرة من التّجذّر في جميع القضايا التي تناولها المؤتمر والتي تهمّ الحياة النقابيّة والوضع العام بالبلاد بما في ذلك قضيّة الاستقلال الوطني التي رُفع فيها شعار "من أجل حلّ عادل للنزاع الفرنسي يضمن لتونس استقلالها ولفرنسا مصالحها" ومن أجل "إرساء نظام سياسي ديمقراطي قائم على التمثيل الشعبي".
ولم يكن هذا البرنامج محلّ إجماع الدساترة النقابيين بل ظلّ شقّ منهم مرتاب من النوايا الشيوعية الخفيّة لدى بعض قادة الاتّحاد، وتواصل صراع طويل أحكم فيه بورقيبة المناورة ليظلّ الاتّحاد سنده من أجل تعيينه على رأس الحكومة بدلا من الطاهر بن عمار.
غير أنّ التصميم الذي كان عليه النقابيون في الدفاع عن "الديمقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية" رجّح الكفّة لفائدة منهج الاتّحاد الذي تبناّه الحزب الدستوري في مؤتمره في صفاقس شهر نوفمبر 1956.
وما أن اعتلى بورقيبة الحكومة حتى راح يخطّط لاحتواء النقابيين بتعيينهم في مناصب وزارية وجهوية ومحلية ممهّدا الطريق لإزاحة بن صالح ثمّ للهجوم على برنامج الاتحاد نفسه محذّرا من مخاطر "ديكتاتورية البروليتاريا" و"صراع الطبقات" ( مؤتمر الاتحاد السادس – تونس – سبتمبر 1956 ).
ولأنّ مسعى الشقّ المناصر لرؤية بورقيبة فشل خلال هذا المؤتمر أعلن زعيمه الحبيب عاشور ممثل ونصير الخط الليبرالي فور عودته إلى صفاقس عن تأسيس منظّمة نقابية جديدة أسماها "الاتحاد التونسي للشغل".
لكن ولأنّ هذا الانشقاق لم يلق الإقبال القاعدي اللاّزم ولا الدّعم الخارجي من "السيزل" فقد رأى بورقيبة أنّ الجوّ سانح إذن بتدبير انقلاب على الأمين العام أحمد بن صالح الذي كان في مهمة نقابية بالمغرب الأقصى وتكليف أحمد التليلي بالمهمة بصورة مؤقتة إلى غاية المؤتمر السابع للاتحاد (تونس – سبتمبر 1957) الذي شهد عودة عاشور إلى الهيئة الإدارية وبالتالي إلى أحضان الاتحاد وتوحيد المنظّمتين.
وفي عهد أحمد التليلي أقرّ الخصم بـ1 % الذي خوّل للاتحاد ضمان إمكانيات مادية هائلة وبعث جملة من المشاريع الاقتصادية (57 تعاضدية خدمات متنوعة، نزل أميلكار، بنك الشعب أي بنك الجنوب الحالي...). ورغم أنّ مؤتمر الحزب الحاكم انتخب في مؤتمره سنة 1959 كلّ من أحمد التليلي والحبيب عاشور عضوين بالديوان السياسي للحزب فإنّ ذلك لم يمنع التليلي من الإعلان خلال مؤتمر الاتحاد بعد سنة (1960) مناهضته "للديكتاتورية" ملمّحا إلى التوجّه الاستبدادي للدولة ولبورقيبة تحديدا، ولم يمنعه من الاحتراز على الخطة التنموية "الاشتراكية الدستورية" التي دُعي أحمد بن صالح (الأمين العام السابق) إلى تطبيقها هذه المرّة لا بصفته النقابية وإنما بصفته كوزير "للاقتصاد والتصميم".
إضافة إلى ذلك جدّد الاتّحاد في مجلسه الوطني (صفاقس – أوت – 1962) الدّعوة إلى إقامة نظام "الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية"، الشيء الذي أثار استياء بورقيبة الذي أوعز إلى حزبه الشّروع في حملة مكثّفة ضدّ الأمين العام أحمد التليلي إلى أن تمّت تنحيته في المؤتمر الموالي للاتحاد (المؤتمر التاسع – 1963) فقفز عاشور ليعتلي الأمانة العامّة على رأس الاتّحاد.
وكان ذلك مدخلا لعلاقة جديدة بين الاتّحاد ونظام الحكم قوامه التّبعيّة بلغت أوجها بعد مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري (بنزرت – 1964) الذي أعلن رسميا عن ضمّ كلّ "المنظمات القومية" ( اتّحاد الشّغل واتّحاد الأعراف والاتّحاد النسائي) بصفتها تشكيلات مختصّة تابعة عضويّا للحزب.
جاء بن صالح لتطبيق برنامجه الاقتصادي (الاشتراكية الدستورية) وضمنها اتّخذت جملة من الإجراءات ألحقت أضرارا بالعمّال وبعموم الشّعب التونسي. وكان عاشور الزعيم الجديد للاتحاد قد ساند في البداية هذه الإجراءات وألحّ على العمّال بضرورة التعاون "لإنجاح المخطط القومي الذي ساهمنا في إعداده والذي سطّره الحزب" مؤكّدا أكثر من مرّة "من واجبنا الوقوف إلى جانب بورقيبة.. تماما كما فعل فرحات حشاد وليس من صالحنا أن نكون خارج هذا الحزب القوي ..".
ولأنّ عاشور لم ينس صراعاته مع غريمه السابق أحمد بن صالح فقد بدأ بإثارة بعض المناوشات المطلبية، أوّلا بالتعويض عن "التخفيض في قيمة الدينار" ثمّ عن تدهور المقدرة الشرائية (علما وأنّ الاتّحاد كان وافق قبل ذلك على التّنقيص من الأجور) وسانده في هذه المناوشات أحمد التليلي. وعلى خلفيّة ذلك عاد الحبيب عاشور ليصبح رأسه مطلوبا وانطلقت الترتيبات لإزاحته ثمّ الزّجّ به في السجن بعد أن دُبّرت له مؤامرة حرق الباخرة (اللود الرابط بين صفاقس وقرقنة).
أمّا أحمد التليلي فقد أحيل على مجلس التّأديب التّابع للحزب وجُرّد من كلّ المسؤوليات والصفات النقابية ومن صفته كعضو بـ"مجلس الأمّة".
وخلفا لعاشور أوتي ببشير بلاغة أمينا عامّا جديدا للاتّحاد ليكرّس دون تردّد سياسة تدجين الاتّحاد نهائيا تنظيميا وعمليا للحزب الحاكم والدولة في ما سمّي آنذاك بـ"الجبهة القومية" حتى موفّى الستينات.
في آخر الستينات قرّر بورقيبة التخلّي عن سياسة "التعاضد" فسارع الحبيب عاشور، من موقع تصفية حساباته مع بن صالح الذي حانت ساعة ذبحه، (تمّت محاكمته بتهمة الخيانة العظمى وأودع السجن) بإعلان مساندته لهذا القرار وأبرق لبورقيبة ليعلن له "استعداد الطبقة العاملة للمساهمة.. في إنعاش اقتصادنا وتطويره" محملا بن صالح مسؤولية "خراب الاتحاد العام التونسي للشغل وخراب الحزب وخراب البلاد". وبعد ترتيبات عاد الحبيب عاشور على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل "دون إضاعة وقت" تماما كما طلب منه "الوسيط" القائم بهذه الترتيبات الوزير الأول الباهي لدغم ليظلّ في هذا الموقع إلى يوم 26 جانفي 1978 تارخ الإضراب العام والأزمة الجديدة التي عصفت بالاتحاد وبالبلاد وبعلاقة المنظمة النقابية بالحكومة والحزب والدولة ككل. هذه الأزمة التي أدّت مرّة أخرى إلى انقلاب جديد وسجن الزعيم النقابي عاشور بعد خميس أسود عرفته البلاد نزل فيه الجيش إلى الشارع ليخلّف مئات القتلى والجرحى والمعتقلين والمطرودين من العمل.
لقد توالت منذ الخمسينات عمليّات الانقلاب والخلع والتّنصيب كتكريس واضح لإصرار الحزب الدستوري الحاكم على تركيع الاتّحاد وضمان السّيطرة عليه بكلّ الطرق تنظيميّا وسياسيّا وعمليّا. ووضع مؤتمر الحزب في بنزرت حدّا لصراع الشّقوق والزعامات داخل الحزب وداخل الاتحاد. وبذلك ترسّخت القاعدة التي حكمت علاقة الاتّحاد بالحزب الحاكم وبالدولة وهي علاقة وحدة (عامة ما يكون فيها الاتحاد تابعا وخادما لمشاريع الفريق الحاكم) أو مواجهة ما أن تبدي المنظمة النقابية أو قيادتها مجرد التفكير في ضبط خياراتها باستقلالية ولو بصورة محدودة. وعامّة ما تنتهي المواجهة بعملية خلع وتنصيب جديدة.
وقد كانت هذه الصراعات والمناورات تجري بصورة فوقية ليس للطبقة العاملة ومنخرطي الاتحاد العام التونسي للشغل كلمة ولا رأي.
لكن ولئن تواصلت سياسة الدولة حيال الاتّحاد على هذا النحو فقد دشّنت أزمة جانفي 78 مرحلة جديد ة تختلف جزئيّا عن مسارات المرحلة السّابقة. فالمواجهة بين حكومة الهادي نويرة (الوزير الأوّل آنذاك) والاتّحاد بقيادة عاشور لم تجر في كواليس قصور الحكم وداخل شقوقه أو بين أجنحة الحزب الحاكم فقط، كما لم تجر بين الفريق الحاكم والبيرقراطية النقابية بمعزل عن جماهير النقابيّين وعموم عمّال تونس.
لقد كان للقواعد العمّالية دور هام في فرض المواجهة كما كان للنقابيين من الهياكل القاعدية والوسطى فضلا عن القيادات تأثير في مضمونها ومجرياتها. بل إنّ المواجهة حتّمها في الحقيقة الاختلاف الذي شقّ الائتلاف الحاكم (والذي كانت البيرقراطية النقابية معبّرة عن فئة الارستقراطيّة العمّالية فيه) إلى وجهتي نظر بخصوص التّعامل مع الأزمة التي تردّى فيها الاقتصاد والمجتمع تحت ضغط الحراك الاجتماعي المتصاعد والغضب الشّعبي المتزايد.
وجهة النّظر الأولى رأت في القمع وسياسة العصا الغليضة أفضل السّبل لإخماد الاحتجاجات وبالتالي تهفيت وقع الأزمة وتلافي الانفجار الاجتماعي، أمّا وجهة النّظر الثانية فكانت ترى على العكس من ذلك أنّ أفضل السّبل هي مسايرة الحركة والتّنازل لها من أجل احتوائها والالتفاف عليها وبالتالي إخمادها والاتّقاء من آثار انفجارها. وكانت البيرقراطية من حملة هذه الرؤية.
وبما أنّ الأزمة قد تزامنت مع طرح مسألة خلافة بورقيبة على رأس الدولة فقد تحوّلت حركة الاحتجاج الاجتماعي إلى عنصر ضغط أساسي في يد هذا الشقّ الذي يضمّ إلى جانب قيادة الاتّحاد عددا من كبار مسؤولي الدولة والحزب. لكنّ الاحتكام إلى هذا العنصر فحسب ينطوي على إجحاف في حقّ المعطيات التاريخية وتشويه لها وتقزيم للدور النضالي للحركة الاحتجاجية الجماهيرية العفوية التي كانت بوعي أو دون وعي ترسم معالم أرضية المواجهة في كلّ أبعادها بما في ذلك الطبقيّة.
لقد كانت الإضرابات العمّالية والاحتجاجات العنيفة أحيانا التي انطلقت مع إضراب عمّال النسيج (مؤسسة السوجيتاكس) في قصر هلال خريف سنة 1977 مناسبة لرفع شعارات مطلبيّة حادّة ومتجذّرة أخذت أبعادا سياسيّة تنتقد اختيارات الدولة وتنادي ببدائل اجتماعية متقدّمة.
وكان المجلس الوطني للاتّحاد المنعقد أيام 8 – 10 ديسمبر 1978 الإطار الذي أفصح ولأوّل مرّة في تاريخ الحركة النقابية التونسية منذ 1956 عن معالم الأرضية النقابية الجديدة التي تنادي باحترام استقلالية المنظمة النقابية عن الحزب الحاكم وبالديمقراطية النقابية داخل الاتّحاد وبنضالية المنظّمة وتمثيليّتها.
ومنذ ذلك التّاريخ أصبحت اللّوائح النقابية تختم بذلك الشعار المعروف والذي نردّده إلى اليوم دون تفكير "عاش الاتّحاد ممثّلا مستقلاّ ديمقراطيّا ومناضلا". وأصبحت هذه الشعارات محور صراع واع له دلالاته وقاعدة للفرز داخل الحركة النقابية. وعلى أساسها نشطت حركة مقاومة التنصيب والتمسّك بالشرعية وشكّل مناضلو اليسار حديثي العهد بالعمل النقابي عمودها الفقري رغم الاختلافات في التكتيك العملي.
في خضمّ ذلك نشأت ولأوّل مرّة حركة تضامن نقابي قويّة عزلت المنصّبين فتفاقمت أزمتهم وأزمة النظام الذي اضطرّ إلى إجراء تغيير شكلي على الفريق الحاكم وذلك بتكليف محمد مزالي برئاسة الحكومة مكان الهادي نويرة لتبدأ سياسة "التفتّح" طيلة المنتصف الأوّل من الثمانينات.
وفي إطار زرع الأوهام حول التّغيير وديماغوجيا التّفتّح والديمقراطية كان لا بدّ وأن تعالج حكومة مزالي الملف النقابي الذي يلقي بظلاله على الوضع العام بالبلاد فأعلنت عن مبادرة "الحل التصالحي" القاضي بحلّ قيادة التيجاني عبيد الذي سبق أن نصّبته مكان الحبيب عاشور والقيادة الشرعية وتشكيل "اللجنة النقابية الوطنية" بقيادة نورالدين حشاد نجل الزعيم الراحل فرحات حشاد مع استثناء عاشور من الحلّ وإبقائه على خلاف بقيّة زملائه الذين أُطلق سراحهم رهن الإقامة الجبرية.
صادقت الهيئة الإدارية الوطنية الشرعية على هذا الحل تحت ضغط أكثر أعضائها تهافتا على المصالحة (عبد العزيز بوراوي عضو المكتب التنفيذي الشرعي) وانطلقت عملية تجديد الهياكل القاعدية والوسطى بإشراف مزدوج، منصّبين وشرعيّين، تمهيدا لعقد مؤتمر قفصة الاستثنائي في أفريل 1981.
لم تمرّ المصالحة في الحقيقة دون أن تلقى معارضة عبّرت عن نفسها أساسا بانسحاب ثلث المؤتمرين في قفصة مطالبين بضرورة رفع الاستثناء عن الزعيم الحبيب عاشور. والتقى في هذا الموقف اليساريون والنقابيون الأوفياء لشخص الزعيم المستثنى معبّرين بذلك عن مغزى نضالي هام وجديد في الحركة النقابية يرفض طيّ صفحة الماضي فاتحين الباب لمواصلة النضال ضدّ سلبيات المصالحة وخاصة قضية الاستثناء المسلّط على عاشور.
واصل المؤتمر أشغاله وانبثقت عنه قيادة جديدة (كلهم ممّن يعرف بالنقابيين الشرعيين) وانتخب الطيب البكوش أمينا عاما التزم هو وفريقه تحت الضغط بمواصلة النضال من أجل رفع الاستثناء عن عاشور وكاتبه الخاص صالح برور. وبعد حوالي سنة ونصف من ذلك انعقد المجلس الوطني للاتحاد (ديسمبر 1892) ليُرفع الاستثناء فعلا وليعود عاشور في إطار حلّ ملفّق وعلى القياس على رأس الاتّحاد في خطّة رئيس مع بقاء البكوش في مثل خطّته كأمين عام. وللإشارة فإنّ خطّة الرئيس استحدثت في نهاية الأربعينات ليقع تكليف الفاضل بن عاشور بها لفترة وجيزة ثم حذفت ولم تعد إلاّ في هذا المجلس الوطني.
أقدمت السلطة آنذاك على هذا التنازل في الحقيقة رضوخا لإرادة النقابيين وتمسّكهم بمطلب رفع الاستثناء حتى تحوّل هذا الشعار إلى مصدر إزعاج حقيقي للقيادة الجديدة وللسلطة نفسها التي لم تمانع أيضا في القبول بهذا التنازل بعد أن ضمنت جر الاتحاد إلى "الجبهة الوطنية" إلى جانب الحزب الدستوري في الانتخابات التشريعية التعدّديّة ربيع سنة 1981.
هكذا إذن يسير الاتّحاد برأسين في قيادته الرئيس الحبيب عاشور والأمين العام الطيب البكوش. وبدأت تدبّ داخله صراعات خفيّة بين شقوق القيادة الشرعية وبدأ عاشور يعدّ العدّة "للانتقام" من بعض أتباعه الذين لم يمانعوا في التخلّي عنه والارتماء في أحضان "الجبهة الوطنية"، لذلك أبدوا ما يكفي من الانسجام مع حكومة مزالي أملا في دعمها حتى تسهل عليه مهمّة تصفية خصومه الجدد (في مقدمتهم الأمين العام) مقابل المواقفة على الزيادات المشطّة في الأسعار وخاصة الزيادة الشهيرة في أسعار الحبوب والخبز (من 80 مليم إلى 170) هذه الزيادات التي أشعلت ثورة الخبز (جانفي 1984). وفي نفس الاتّجاه أقدم على إمضاء "اتفاقيّة السّلم الاجتماعية" (أفريل 1984) طمعا في كسب رضا الحكومة حتى تسهل له محاصرة انشقاق 7 من أعضاء المكتب التنفيذي الذين سبق أن أطردهم بقرار من الهيئة الإدارية الوطنية فبعثوا "الاتحاد الوطني التونسي للشغل" (U NTT).
لم تمرّ هذه الصفقات دون تبعات بل أثارت غضب قطاع التعليم الثانوي ثم سرعان ما اتّسعت دائرة الغضب لتشمل عدّة قطاعات بارزة في الاتّحاد مثل البريد والسكك وقمرق الدخان وشركة الأثير الخ...) الذين رفعوا في وجهه يوم احتفالات غرة ماي 1984 ببورصة الشغل بالعاصمة شعار "يا عاشور يا دجال يا خائن العمّال" فردّ عليهم بإجراء انتقامي تمثّل في طرد 183 إطارا نقابيّا جلّهم من مناضلي اليسار.
كانت البيروقراطية في وضع محرج للغاية. فعلاقتها مع السلطة ليست على ما يرام باعتبار مهادنتها بل تشجيعها للمنشقّين أصحاب المنظمة النقابية الجديدة U NTT التي اجتذبت إليها أعدادا غفيرة من عمّال وأعوان قطاعات حسّاسة وتعتبر تاريخيا من ركائز الاتحاد (النقل). ومن جهة لم تتوصّل بعد إلى إحلال الوئام التام داخل الفريق القيادي التي مازالت ذيول الخلافات مع الطيب البكوش تحرّك أكثر من ملفّ. ومن جهة ثالثة باتت عملية طرد الـ180 نقابيّا (بين منخرطين وقواعد) مصدر إزعاج وتُلقي بظلالها على الاستعدادات الجارية للمؤتمر الوطني 16 للاتّحاد الذي سينعقد شهر ديسمبر 1984. رغم أنّ حملة التّجريد هذه جاءت في الوقت المناسب حيث خلّصت عاشور وفريقه من عدد من المناوئين والوجوه التي قد تلعب دورا في إفساد المخطّط الجديد والمتمثّل في تعزيز القيادة بأبرز الأتباع (اسماعيل السحباني وكمال سعد وعلي رمضان الخ... ) والتي قد تشكّل قائمة مزاحمة تعكّر صفو أجواء المؤتمر أكثر من أيّ شيء آخر.
في الجهة المقابلة ظلت الحكومة تشجع الانشقاق وتدعمه باسم حرية التعدد النقابي وراحت تستغل نقاذ ضعف عاشور محاولة من وراء ذلك إضعاف قدرات الاتحاد الدفاعية والنضالية لفرض السياسة التعاقدية الجديدة التي تبشر بها وهي سياسة " الانتاج والانتاجية " وشعارات " شد الأحزمة " و" تقاسم التضحيات " لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي ناخت بكلكلها على الاقتصاد والبلاد.
في هذا الإطار جاءت سلسلة المناشير القاضية بإلغاء نظام الخصم المباشر وإبطال العمل بالتّفرّغات النّقابيّة والتّضييق على الاجتماعات النّقابيّة في مؤسّسات الإنتاج (المنشور عدد 40 الذي ما يزال ساري المفعول إلى الآن) ومحاصرة حقّ الإعلام إلى أن قرّرت الهجوم على الاتّحاد صائفة 1985 مستغلّة أزمة علاقتها مع النّظام الليبي وموقف الاتحاد الرّافض للاصطفاف وراها في هذا الملف.
لقد كان الهدف من ذلك هدفا مزدوجا: من جهة التخلّص من عاشور كخصم جدّي في السّباق نحو خلافة بورقيبة التي أضحت الشّغل الشّاغل لأجنحة الحكم ورموزه وباتت مسألة مطروحة للحسم ومن جهة ثانية تهميش المنظمة النقابية كي لا يستفيد من قوّتها عاشور في هذا الصراع وحتى لا تستفيد منها الطبقة العاملة والشّعب لإفشال خيارات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية.
فلو نظرنا إلى مجريات الحياة النقابية خلال هذه الفترة من زاوية الأرضية النقابية التي صاغتها أزمة 26 جانفي 78 للاحظنا أنّ:
- السّلطة ظلّت دوما وفيّة لاستراتيجيّتها تجاه الاتّحاد: تريدها منظّمة تابعة ومدجّنة وعنصرا من عناصر الديكور السياسي وشريكا في تكميم أفواه العمّال وأداة ناجعة لتمرير الاختيارات ومؤسّسة لبثّ الأوهام حول الوفاق الطبقي وتبليد الذهنية وتمييع وعي الجماهير العمالية والشعبية حتى تقبل هذه الأخيرة وعن طواعية بالاستغلال والقهر وحياة الدونية.
- البيرقراطية النقابية وخاصة منذ عودة عاشور وظّفت المنظمة لخدمة أغراضها السياسية والشخصية بحيث لا ترى في الاستقلالية غير شعار للتعبئة ولاستغلال مشاعر النقابيين كلّما احتاجت لهم كجمهور لممارسة الضغط على السلطة وقد تجلّى ذلك فيما عرف بـ"سياسية التبريد والتسخين" التي استعملها عاشور قبل أزمة أكتوبر 1985. فالمنظّمة هي بمثابة ضيعة يتصرّف فيها الزعيم مثلما يحلو له، يطرد من يشاء ويجرّد كلّ من خوّلت له نفسه معارضته أو الاحتجاج على خياراته. فهي إذن ماكينة لصنع الأتباع والزبائن وحشد الأنصار والميليشيات عند الاقتضاء. فإن كانت المنظمة في حالة وئام مع الأعراف والسلطة يقع تجميد كلّ التحرّكات بل وجب أن يمتثل النقابيون لتجميدها بإشارة بنان. ومن لا ينصاع تتّخذ في شأنه كلّ الإجراءات التأديبية الممكنة بما في ذلك سحب الحرمان من الانخراط (التجريد مثلما وقع في قطاع البريد إثر إضراب الأيام العشرة الشهير). أمّا إذا كانت المنظمة وبالأحرى قيادتها في حاجة إلى الجمهور من أجل الضغط على الخصوم أو منازلة الحكومة أو الحزب الحاكم أو شقّ منه ومواجهة الأعراف توضع كلّ الإمكانيّات على الذمّة ويُطلب منهم التّصعيد واستغلال أيّ موضوع للدخول في حرب ضدّها مثلما جرى في قطاع سكك الحديد والنقل سنة 1985.
- بين هذه وتلك ظلّ مناضلو اليسار على الدوام كتلة ضغط تُستغل من قبل البيروقراطية، حطب معارك تُجنّد (أي كتلة الضغط) عند الحاجة وتفتح في وجوههم مجالات العمل تحت رقابة الاحتياط اللاّزم وحالما تنتهي الحاجة يعودون إلى موقعهم الطبيعي أوّل مستهدف بالتّعسّف والتّضييق.
ووفق الاستراتيجية المذكورة تقدّمت السّلطة بصورة حثيثة في خنق المنظمة النقابية مستغلّة هفواتها. وللإجهاز على القيادة افتعلت ملف سوء التصرف في أموال الاتّحاد ومؤسساته فردّ عليها الحبيب عاشور بالندوة الصحفية الشهيرة في أكتوبر 1985 التي اتّخذت منها الحكومة ذريعة للبدء بالهجوم على الاتّحاد.
وفي خطة الهجوم هذه بعثت ما سمّي بـ"المكتب القومي للتنسيق" المؤلّف من غلاة الدساترة الذي سمّوا أنفسهم "الشرفاء" وأصحاب حركة تصحيحية لتخليص الاتّحاد من عاشور تحت شعار "إمّا عاشور وإمّا الاتّحاد" واستولوا مدعومين بقوّات البوليس على مقرّات المنظمة التي لم يرابط بها للدفاع عنها إلاّ مناضلو اليسار تقريبا فيما تبخّر أنصار البيرقراطية، فيما راحت القيادة تطالب بتطبيق اتفاقية 4 ديسمبر مع وزير الشؤون الاجتماعية.
غير أنّ محمد مزالي (الوزير الأول) سارع في ذكرى تأسيس الاتّحاد بتجميع الشرفاء وقادة الاتّحاد الوطني UNTT ووجوه ممّن يسمّون بقدماء النقابيين ليرفع شعار الوحدة النقابية. ومساء ذات اليوم استقبل بورقيبة في قصر قرطاج هذا اللفيف وليربّت على خدّ عبد العزيز بوراوي قائلا "اليوم عاد الدرّ إلى معدنه".
أما القيادة فقد وجدت نفسها على قارعة الطريق تتّخذ من المقاهي (مقاهي جهة لافيات بالعاصمة خاصة) مقرّات لاجتماعاتها تحت رقابة المخبرين، ومن أعضائها من فتحت له ملفات عدلية في قضايا سوء تصرف وقضايا أخلاقية (قضية زنا ضدّ عبد السلام جراد) وزجّ بالكثير من المناضلين في السّجن وسقط الاتّحاد من جديد في أزمة ستتواصل إلى غاية تاريخ شهر ماي 1988 تاريخ الإعلان عن مصالحة جديدة بقيادة النقابي القديم الحبيب طليبة وبرعاية بن علي الذي أطاح ببورقيبة ونصّب نفسه رئيسا للبلاد (انقلاب 7 نوفمبر 1987).
في الأثناء واصل النقابيون القاعديون ومناضلو اليسار خاصة مقاومة التّنصيب متمسّكين بهياكلهم الشرعية والمنتخبة والمزاحة بالقوّة ونشّطوها في السّرّيّة، وبعث المطرودون منهم من العمل "لجنة المطرودين "للدفاع عن حقّ الشغل ولتنظيم حملة التضامن، فيما كانت القيادة تنسج خيوط الاتصال سرا وجهرا مع الشرفاء والمنصّبين بحثا عن حلّ للأزمة (12) وبرز في ذلك خاصة اسماعيل السحباني وأحمد رميلة اللذين ربطا الصلة بدار الحزب رغم استياء النقابيّين وعموم أصدقاء الحركة النقابيّة من الدّيمقراطيّين.
3 – 1 – الطّور الثّالث: فترة التّسعينات وتصدير الأزمة إلى الدّاخل
بعد رحيل بورقيبة ومجيء بن علي ظلّت سلطة 7 نوفمبر طوال 6 أشهر تبحث عن الطريقة المثلى من وجهة نظرها لحلّ أزمة الاتّحاد في إطار شعارات تجاوز مساوئ "العهد البائد". ووجدت في تجربة "اللجنة النقابية الوطنية" أي لجنة نورالدين حشاد المثال الذي ينبغي الاحتذاء به. ولم تجد صعوبة في جرّ القيادة النقابية المعزولة إلى مثل هذا الحل بل بالعكس فقد كانت قابلة بكل التنازلات المطلوبة لتعود لمنصبها النقابي وتستريح من مشقّة المقاومة من خارج الجهاز.
تشكّلت اللجنة الجديدة برئاسة النقابي القديم الحبيب طليبة (وكان آنذاك يشغل خطة رئيس مدير عام لمؤسسة الاسمنت ببنزرت) وسرعان ما شرعت في تنظيم انتخابات جديدة للهياكل القاعدية والوسطى إعدادا لمؤتمر وطني استثنائي للاتحاد. أفضت تلك الانتخابات إلى انتصار ساحق لقائمات ما يعرف بالنقابيين الشرعيين لكنها في نفس الوقت أبرزت صراعا من نوع جديد لم تعرفه الحركة النقابية البتة من قبل، وهو الصراع بين قوى اليسار وأوساط من النقابيين الشرعيين الديمقراطيين من جهة وأتباع الاتجاه الإسلامي (أو ما يصطلح عليهم وقتها بالخوانجية) مدعومين بالعاشوريين (أتباع شخص عاشور الأوفياء) من جهة ثانية.
خيّم هذا الصّراع على كلّ فترات حملة تجديد الهياكل القاعدية والوسطى للاتحاد وتواصل بطبيعة الحال خلال المؤتمر الوطني الاستثنائي المنعقد بسوسة أيام 18 – 20 أفريل 1989 والذي أفرز في النهاية قيادة جديدة من الشرعيين ضمن قائمة كانت السلطة أشرفت بصورة مباشرة تقريبا (عن طريق مستشار بن علي آنذاك منصر الرويسي) على تشكيلها. وانتخب اسماعيل السحباني أمينا عاما بعد أن حظي بمساندة اليسار لوقف زحف ما يعرف بالخوانجية والذين كانوا يتخفّون وراء علي بن رمضان والذين كانوا وفق خطة حزبهم يعتبرون الوصول إلى قيادة المنظمة وافتكاكها هدفا مركزيا في مخطط الإعداد للانقضاض على الحكم.
واجهت القيادة الجديدة كمّا هائلا من الملفات المطلبية المتراكمة والموروثة عن فترة الأزمة المنصرمة زادتها الإجراءات التي اتّخذتها حكومتا مزالي ثم رشيد صفر وسلسلة القوانين والأوامر التي تمّ استصدارها تعقيدا. كما وجدت نفسها مجبرة على مسايرة حملة واسعة النطاق من الإضرابات شملت قطاعات البريد والتعليم بجميع مراحله والبنوك والنقل والصحة وغيرهم. وأخذت الحركة في التّجذّر في مطالبها بشكل أحرج القيادة الجديدة وأثار مخاوف السلطة في الآن ذاته.
كان السحباني مطالبا باستمالة فريق العاشوريين وتحويلهم إلى أتباع له وبمحاصرة الذين يعملون أو يتعاطفون مع الاتجاه الإسلامي (الخوانجية أو حزب النهضة اليوم) وفي نفس الوقت كان عليه ألّا يخسر حلفاء الأمس من اليساريين والمستقلين دون أن يترك لهم المجال للتوسّع والانتشار. ولكي يثبت جدارته بالقيادة كان لا بدّ أيضا أن يُظهر ما يكفي من شواهد الإخلاص للسلطة السياسية الجديدة دون أن يستفز حساسية النقابيين، خصوصا وأنّ بعض أعضاده في القيادة (عبد السلام جراد خصوصا) لم يخفوا نواياهم في إزاحته من الأمانة العامة وراحوا يبثّون دعايات مضادّة له وكان إحياء ذكرى أحداث صفاقس يوم 5 أوت 1991 مناسبة ليكشفوا بوضوح عن هذه النوايا.
لذلك كله وجب عليه أن يضع مخطّطا كاملا لمعالجة كلّ هذه التناقضات العويصة. وكان المجلس الوطني (ديسمبر 1990) منطلقا لهذا المخطّط ففرض تنقيح النظام الداخلي بشكل يسمح له بتنقية الأتباع الجدد المطلوب صناعتهم صنعا. ثم وجد في الهجوم الذي شنّته السّلطة آنذاك على العناصر "الخوانجية" الفرصة المناسبة للتّخلّص منهم، فأعدّ فيهم قائمات لوزارة الداخلية بالتعاون مع عدد من الكتّاب العامّين للاتّحادات الجهوية الذين نسّقوا في ذلك مع الولاّة. بهذه الطريقة تمّ التّخلّص من عديد الكتّاب العامّين (باجة وزغوان والقصرين والعديد من الكتّاب العامّين لجامعات مهنية معروفة (البنوك والستاغ الخ...). وفي نفس الوقت استمال البعض الآخر ممّن كان يتعاطف معهم وكسبهم إلى صفه (السكك والفلاحة وقابس...) وأصبح محاطا بفريق ما يعرف بالجنرالات أي أعضاء الهيئة الإدارية النافذين أمثال الكاتب العام للاتحاد الجهوي بتونس (علي الطرابلسي ( تونس ) ومحمد الصالح الجديد (سوسة) والحبيب عتيق (بن عروس) ومحسن الدريدي (بنزرت) وغيرهم.
وراح السحباني يعمل على تمتين روابط الصلة بالسلطة شاهرا استعداداته لمساعدتها على السيطرة على الوضع وتقليم أظافر القوى التي تحصّنت بمواقع في الاتحاد من "الخوانجية" ومن اليسار في ذات الوقت. ونودي إلى أعضاء المكتب التنفيدي الذين يقلقون راحته لترفع في وجوههم التحذيرات اللاّزمة، ودعا بن علي شخصيّا البعض منهم (عبد السلام جراد) إلى ملازمة الانضباط والسير وراء السحباني، وهو ما التزم به وعبّر عنه في فترة لاحقة في مؤتمر الكرم بالقول "سندافع عن الأمين العام الأخ اسماعيل السحباني برّا وأرضا وجوّا". وأعطي للسحباني الضوء الأخضر للتّخلّص من كلّ ممّن تحدّثه نفسه زعزعة الوئام داخل القيادة الماسكة بالاتحاد بما في ذلك أعضاء القيادة، وعلى خلفيّة ذلك تمّت لاحقا إزاحة الثّلاثي علي رمضان (الذي عرضت عليه السلطة التفرّغ لدراسته في معهد الهندسة بمجاز الباب وتحسين وضعه المهني) والطاهر الشايب وكمال سعد (الذي عرض عليه منصب ملحق اجتماعي بسفارة توني بروما).
إنّ نظام بن علي وهو بصدد ترتيب البيت لمنظومته الاستبداديّة الجديدة ليس في حاجة إلى قلاقل داخل الاتحاد، وفي الوقت نفسه لن يقبل بأي هامش من الاستقلالية للمنظمة. وقد وجد في اسماعيل العون الطيّع لخدمته في هذا المضمار.
أصبح السحباني إلى جانب محمد مواعدة في الساحة السياسية أبرز الوجوه المتعاونة مع بن علي ومع الشقّ المتشدّد في فريقه الحكومي (عبد الله القلال ومحمد الجري الخ...) وأصبح الاتّحاد من أبرز الفاعلين في سياسة "الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعية" بل أصبح هو السند الاجتماعي للنظام.
أبرز ما اضطلع به الاتحاد في هذا الصدد هو تبنّيه لصيغة المفاوضات الاجتماعية الثلاثية التي أرساها منذ 1990 والتي تحوّلت تدريجيّا إلى آلة في يد الدولة لتعديل موازينها العامة الاقتصادية والمالية.
وقد اتّخذ السحباني من الزيادات في الأجور المعلنة كلّ ثلاث سنوات حجّة لإفحام النقابيين والعمّال بنجاعة ونجاح سياسته النقابية ومنهجه في تسيير الاتحاد ووسيلة لإقناع نظام بن علي بإخلاصه له. وفي المقابل أصبحت اتفاقيات الزيادات قيدا على التحركات النقابية القطاعية والجهوية الخصوصية وخاصة إذا ما كانت لهذه التحرّكات مطالب ذات مردود مالي.
لقد استقرّت الأوضاع للسحباني والمكتب التنفيذي ككل حتى أصبح يسيّر المنظّمة بأريحيّة مطلقة بعد أن تواطؤوا مع السّلطة في قمع بعض جيوب المقاومة النقابية التي تمسّكت بهذه الدرجة أو تلك بالديمقراطية الداخلية. وترسّخت عادة إلغاء الإضرابات باتفاقيات فوقيّة بين المكتب التنفيذي والحكومة ومؤسّسات الإنتاج دون علم الهياكل المعنيّة وضدّ إرادتها وإرادة قواعدها. وبهذه الصورة تعطّلت أنشطة الهياكل وأصبحت الطريقة الوحيدة لحلّ النزاعات الكبيرة والصغيرة من نظر الأمين العام الوحيد المؤهّل والقادر على حلّها مع رئيس الدولة رأسا ودون سواه.
وكثرت زيارات الأمين العام لقصر قرطاج (لقاء شهري) حتى صار يُنعت بوزير العمل وأصبحت الزيادات في الأجور يصطلح عليها بـ"زيادات الحاكم" وتضرّرت من ذلك مصداقية الاتّحاد والعمل النقابي ككلّ في نظر النقابيين وعموم العمّال.
اقترنت هذه السياسة النقابية على المستوى الداخلي بتضخّم دور المكتب التنفيذي في مرحلة أولى على حساب الهياكل ومؤسسات القرار النقابي ثم في مرحلة ثانية بتضخّم دور الأمين العام والسلطة الفردية. وقد جرى تنقيح النظام الداخلي للمنظمة عدة مرات دائما باتجاه تقوية وتوسيع صلاحيات الأمين العام الذي بات في الحقيقة فوق القانون وفوق سلطة الهياكل القيادية للمنظمة التقريرية منها والتنفيذية. وبلغ هذا التّمشّي ذروته بمبايعة اسماعيل السحباني في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الكرم الأوّل (1993) والثاني (1999) بالهتاف من القاعة ودون اللجوء إلى الاقتراع. علما وأنه هو الذي كان يترأّس المؤتمر الوطني للاتحاد ومؤتمرات الجامعات والاتحادات الجهوية ليفرض انتخاب من يشاء ضمن ما سمّي آنذاك "قائمة الأمين العام" أو "قائمة الاستمرارية".
وفي كلمة أصبحت الأمانة مؤسّسة بحالها تتمتّع بصلاحيات مطلقة لا فقط فيما يخصّ القرارات النقابية وإنما أيضا في كلّ ما يتعلّق بالتّسيير الإداري والمالي للمنظمة.
في عهده نشطت لجنة النظام الداخلي كما لم تنشط قط من قبل في كامل تاريخ المنظمة وراح ضحيتها عشرات النقابيين. فكل من كان يُشتمّ منه رائحة معارضة أو يلاحظ عليه روح النقد لم ينج من بطش هذه "الماكينة" حتى كبار مسؤولي الاتّحاد بما في ذلك أعضاء القيادة. وللتّذكير فإنّ عبد المجيد الصحراوي أحيل على هذه اللجنة وأطرد من الاتحاد بناء على تقرير وشاية كتبه فيه نقابي من سوسة ادّعى أنّ الصحراوي التقى به في محطة سيارات الأجرة وشتم الأمين العام وانتقد عمل الاتّحاد. أمّا أحمد رميلة والأمين العام المساعد المكلّف بالإدارة والمالية فقد أحيل هو الآخر وأطرد لأنه تجرّأ على توزيع نصّ بمناسبة تظاهرة نقابية في نزل أميلكار انتقد فيها الأمين العام. كان ذلك سنوات 95 –1996. أمّا محسن الزواوي (بن هندة) الكاتب العام للاتحاد الجهوي بجندوبة فقد افتُعلت له قضية أخلاقية فيما كان يمثّل الاتّحاد رسميّا في مؤتمر إحدى المركزيات النقابية التركية وتكفّل بإدارة هذا الانقلاب الفضيحة أحد رموز اليسار من القيادة النقابية.
وعلاوة على ذلك تمّ حلّ عديد المكاتب التنفيذية الجهوية والقطاعية فقط لأنها اعتُبرت غير منسجمة مع الأمين العام (القصرين وزغوان ونابل) فيما فُرضت تشكيلات أخرى سحب منها نقابيّوها وقواعد قطاعها أو مؤسستها ثقتهم بسبب تبعيّتها العمياء للأمين العام. وجرى تحوير المسؤوليات في عديد التشكيلات لإبعاد المغضوب عليهم من قبل الأمين العام وبطانته (خير الدين بوصلاح ومحمد الطرابلسي والصحراوي قبل أن يطرد) ولم يدع المجلس الوطني إلى الانعقاد – خلاف ما تنصّ عليه قوانين الاتّحاد – طيلة سبع سنوات متتالية، وحتى عندما نادى به بعض النقابيين عن طريق عريضة قدّم فيهم السحباني شكاية إلى مركز الأمن "فندق الغلة" بتونس العاصمة بعد التنسيق مع السلطة ليزجّ بأربعة منهم في السجن في ما يعرف بقضية العريضة النقابية في أفريل 1997 (جيلاني الهمامي ورشيد النجار ومنجي صواب وأحمد بن رميلة). أمّا التّهم فكانت ترويج أخبار زائفة من شأنها تعكير صفو النظام العام وثلب هيئة رسمية (في إشارة إلى الاتحاد والأمين العام).
لقد حاول السحباني منذ تولّيه قيادة الاتّحاد فرض منهاج جديد قدّمه في خطاب نقابي مخادع ظاهره أقلمة المفاهيم النقابية مع مقتضيات التحولات العالمية الجارية على الاقتصاد وعالم الشغل والعلاقات الاجتماعية وجوهره نشر مفاهيم النقابة المساهمة المتواطئة مع رأس المال وأرباب العمل والخاضعة للسلطة الحاكمة. وقد عقد للبدء في حملة الترويج لهذه الأفكار ندوة الإطارات النقابية (المركب الرياضي والثقافي بالمنزه بالعاصمة) برّر خلالها قبول الاتّحاد بخوصصة المؤسّسات وسياسات تحرير الأسعار والموافقة على اتفاقية الشّراكة مع الاتحاد الأوروبي في أوّل جامعة صيفيّة للإطارات النقابيّة أشرف عليها محمد الجري المستشار الخاص لبن علي (عين دراهم - سبتمبر 1995).
أما على المستوى السياسي فقد ساند الاتحاد بقيادة السحباني سياسة القمع وهيمنة الدولة على جميع مؤسسات المجتمع المدني وتدميرها، ووقف إلى جانب عمليات تحوير الدستور على قياس مخططات ومشاريع بن علي وساند القوانين الموضوعة لتقييد الحريات العامة والفردية وبما يعارض حتى قانون تصنيف الجمعيات الذي يستهدف أنشط الجمعيات في تونس (رابطة حقوق الإنسان الخ...) رغم أنّ الاتّحاد نفسه كان مستهدفا بهذا القانون. بل ولم يتوان السحباني عن مهاجمة الأحزاب السياسية والجمعيات مؤكّدا حاجة الاتّحاد إلى "دولة قوية" وإلى "حزب قوي في السلطة" للتعامل معه بمسؤولية والتزام" (13).
وعلى الصعيد الدولي تحوّل الاتّحاد إلى بوق دعاية وأداة لتلميع صورة النظام التونسي في الخارج لدى المنظمات وفي المحافل الدولية، وإلى تفنيد ما تروّجه الصحف والمنظمات النقابية حول واقع الحريات في تونس. وبلغ الأمر بالهيئة الإدارية الوطنية إلى إصدار لائحة تنديد بمنظمة العفو الدولية والكنفدرالية العالمية للدفاع عن حقوق الإنسان واعتبارهما منظمات تحرّكها أيادي صهيونية مستاءة من التقدّم الذي أحرزته تونس في كلّ المجالات بما في ذلك مجال الديمقراطية والحريات على حدّ تعبيرها.
لقد أضرّت هذه السّياسة بسمعة الاتحاد العام التونسي للشغل وعزلته عن الحركة الديمقراطية ومؤسّسات المجتمع المدني وحوّلته إلى جزء من الديكور الديمقراطي الذي أنشأه بن علي كواجهة لسياسته. وإلى ذلك أصبح الاتحاد بوقا من أبواق الدعاية التي يستعملها النظام وركيزة من ركائزه في تمرير السلم الاجتماعية والاستقرار السياسي وصار نتيجة ذلك منظمة ضعيفة محدودة القدرة على التعبئة والتّجنيد بعد أن تقلّص إشعاعها الجماهيري في الدّاخل وتراجعت مصداقيتها في الخارج.
لهذه الأسباب كلّها هجرت القواعد العمل النقابي وشاعت روح من العزوف عن الانخراط والنضال وعن الترشح للتشكيلات القاعدية خصوصا وتوقف سيل الدم الجديد الذي كان يغذّي الاتّحاد وتنفّذت مجموعة من الأتباع المصلحين المتسلّقين التي والت السحباني لتنال بالمقابل الامتيازات والتّعيين في المؤسّسات العمومية (صندوق الضمان الاجتماعي والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية والاذاعة والتلفزة الخ...) والقنصليات وبمجلس النواب.
فقد الاتّحاد الكثير من نضاليّته المعروفة وفقدت الغالبيّة من الإطارات النقابيّة، بما في ذلك العناصر المنحدرة من أوساط يساريّة، الطابع الكفاحي والمبدئي المعروفة به تحول بعضهم إلى نواة لبيرقراطية ناشئة لا تبحث إلاّ على المواقع والمنافع وتتخذ مواقفها وفق ما يحقّق لها امتيازات.
وحتى حركة التصحيح النقابي التي اندلعت صيف سنة 2000 للإطاحة باسماعيل السحباني فقد جاءت بإيعاز من السلطة ومن بن علي شخصيا الغاضب من صنيعته إثر تصريحاته في الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص الترشح للرئاسة في انتخابات 1999. هذه الحركة التي رعتها السّلطة وشجّعتها لم تأت في الواقع بجديد رغم أنها انبنت على انتقاد مساوئ سياسة السحباني وطرق عمله، فقد كان أكبر منشّطي هذه الحركة هو أول أدوات تنفيذ تلك السياسة. وقد ثبت بعد مؤتمر جربة الذي فتح الباب مجدّدا لعودة علي رمضان أنّ ما بالطبع لا يتغير إذ سرعان ما عادت البيرقراطية من جديد إلى السّير على نفس المنهج وذات السياسة رغم ما كانت ترفعه من شعارات طنّانة لتبرير الانقلاب على السحباني الذي أودع السجن بعد أربعة أشهر من إقالته بتهمة السرقة وسوء التّصرّف.
خاتمة
إنّ المتتبّع لمجريات الحياة النقابية اليوم يلاحظ بسهولة – بعيدا عن الرهانات الانتخابوية وعن اللهث وراء المواقع – أنّ الاستقرار النّسبي الذي تشهده حياة المنظمة ينطوي على مؤشرات كثيرة لأزمة نقابية داخلية يجري العمل على طمسها بكل الطرق وتأجيل انفجارها. والمؤسف في ذلك أنه بقدر ما استفادت البرجوازية ونظام حكمها من أزمات الماضي واستخلصت الدّروس والعبر بما ساعدها دوما على تجديد تكتيكاتها لضمان التّحكّم في المنظمة الشغيلة وفي الحركة النقابية العمّالية بذات القدر تخلّف وعي النّقابيّين والقواعد العمّالية وازدادت مخاطر الثقافة الشرعوية وأوهام الإصلاحية التي انضافت إليها النزعات الانتهازية وروح الفردانية المقيتة.
وإذا أخذنا في الاعتبار التطورات الحاصلة اليوم في تنظيم العمل وعالم الشغل (القطاع الخاص وأشكال التشغيل الهشة...) فإنّ المستقبل لا يبعث على الارتياح بالمرة. إنّ جيل النقابيّين الجدد لتقع عليه مسؤولية كبرى وخطيرة، مسؤولية بناء نموذج جديد من العمل النقابي على أنقاض أكداس المفاهيم البالية التي طغت ومازالت تطغى على منظمتنا إلى اليوم. ولكُم في تاريخ الحركة وفي سيرة العديد من رموزها وروّادها انطلاقا من محمد علي الحامي خير مثال ورصيد لا يفنى من الميزات.
جويلية – 2004
هوامش
( 1 )– مقابل 2620 من الفرنسيين و1863 من الايطاليين و2000 من المالطيين.
( 2 )– 4507 عاملا تونسيا من جملة 9840 عاملا بالمناجم أي ما قدره 45 %تقريبا.
( 3 )– أول إضراب خاضه العمال من كل الجنسيات كان يوم 8/9/1900 دشنه عمال السكك تضامنا مع زملائهم بالجزائر (عمال خط عنابة – قالمة).
( 4 )Force Ouvriere Tunisienne – FOT تأسست قبل 26 جانفي 1978 بأيام بتدبير وإشراف محمد الصياح مدير الحزب آنذاك.
(5 )– بعد مؤتمر تور وانبعاث الحزب الشيوعي الفرنسي أصبحت نقابة الس ج ت شبه منقسمة أيضا بين الشيوعيين والاشتراكيين.
(6)– بشير التليليet syndicalisme dans le Maghreb des années 1919 – 1934 1919Nationalismes , Socialismes – الجزء الثاني – ص: 95 – منشورات كلية العلوم الانسانية – تونس.
(7)–صرح القناوي قبيل الإضراب بما يلي: "إنّ جامعة عموم العملة التونسيين منظمة مهنية خالصة غير تابعة لأي حزب مهما كان لونه وإذا ما شنّ إضرابا في 20 نوفمبر فإنّ الجامعة لا تتحمّل أيّ مسؤولية فيه ولا يخطر ببالها البتة أن تشارك فيه...".
(8)– وقد تبيّن من التحقيق المفتوح في الموضوع لأثر الشكايات أنّ حزب الدستور جنّد أشخاصا ليسوا نوّابا في المؤتمر ولا حتى منخرطين بالجامعة وبرّر الهادي نويرة ذلك بتأويل متعسّف على ما جاء في الفصل السابع من القانون الأساسي للجامعة الذي ينصّ على: "كلّ نائب يأنس في نفسه الكفاءة بإمكانه الترشح لعضوية مكتب الجامعة...".
(9 )– أجرى بوورقيبة منذ بداية 1944 اتصالات مع السفارة الأمريكية في تونس وجاء في كتابه "تونس وفرنسا" أنّ الأمريكان يعرفون جيّدا أنّ أفضل سد ضد الشيوعية يتألف من الاتحاد العام التونسي للشغل في الميدان الاجتماعي والحزب الحر الدستوري الجديد في الميدان السياسي".
( 10) – جاء في الفصل 42 من القانون الأساسي للنقابة المستقلة لشركة صفاقس – قفصة: "كل النقاشات السياسية والدينية ممنوعة "كما جاء في الرسالة التي بعثتها جلستها العامة التأسيسية الموجهة للمقيم العام في معرض حديثها عن تعلق المؤتمرين بالجنرال ديقول "الذي عرف بفضل روح العدل والإنصاف العالية عنده كيف يجلب إليه كل قلوب السكان الكادحين في تونس...".
( 11 )– ولم يرد في مواد المؤتمر الثلاث الأولى للاتحاد ما يفيد مناهضة الاستعمار صراحة عدا تصريح حشاد أمام طلبة شمال إفريقيا في باريس يوم 20 ديسمبر 1946 في حديثه عن النقابيين التونسيين "إنهم يتولون النضال على جبهتين: ضد رأس المال المستغل والاستعمار المضطهد... ".
( 12) – وافق اسماعيل السحباني وأحمد بن رميلة على الدخول في المكتب التنفيذي التوحيدي الذي كانت السلطة تسعى إلى تشكيله بين الشرفاء وجماعة الاتحاد الوطني والقيادة الشرعية المزاحة ولكنهما سرعان ما تراجعا عن ذلك تحت ضغط النقابيين الشرعيين.
( 13) – أنذر خطابه يوم 4 ديسمبر 1995 بدار الاتحاد بتونس في اجتماع مع الإطارات النقابية بمناسبة إحياء ذكرى اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد – جريدة الشعب.
ملاحظة : صدر في كتاب بعنوان "الاتحاد العام التونسي للشغل نظرة من الداخل" - تونس 2016