مصاحبة الذوق بهتك الانفعال في (ذاكرة بين ضفاف دجلة) للقاص كريم جبار الناصري
داود السلمان
2024 / 2 / 5 - 10:21
الإنسان حينما يرحل عن مدينته، التي وُلد وترعرع فيها، تبقى نار الحنين مستعرة بين جوانحه، لتلك المدينة الصاخبة بالذكريات، وكلما يتذكر أيام طفولته الأولى، وريعان شبابه وسط اترابه الذين قضى معهم، سني طفولته بلذة لا تشوبها شوائب الحزن والأسى، ولا الكدر والشجن. تلك الحياة بكل تفاصيلها، فهو يلهو ويمرح غير مدرك لما يخطط له القدر، ولم يخطر بباله، في يوم من الأيام، إنّه سيرحل عن ذلك المكان الذي قضى فيه أجمل أيامه وألذ ساعاته، واتخذ طريق أللاعودة مستقرًا له. لكن للدنيا تقلباتها وللقدر المفاجئات التي يفاجأ بها المرؤ، حيث تحدث له متقلبات لم تكن له بالحسبان؛ وهذا هو طابع الحياة وديدنها.
خصوصًا لو عاش الإنسان هذا في قرية نائية، بعيدًا عن المدينة وضجيجها المُفتعل، أي لو عاش في قرية تضجّ بالخضرة والزراعة والمياه العذبة والهواء العليل، وكل ما هو جميل في ظل أجواء غير ملوثة بدخان المدن، وزحاماتها التي تكدر النفس، وانما في أجواء منعشة تشرح النفس، وتسر الخاطر بجمالها وروعتها.
وإذن، فضلا عن كل ذلك، الإنسان دائما ما يحن الى المكان الذي وُلد وعاش فيه، وهذه الخصلة اختص بها الانسان وحده، لا تخص غيره من بقية المخلوقات الأخرى. الكيان هذا المخلوق العجيب المسمى بـ "إنسان" الذي هو أكثر المخلوقات حاسة وتحسسا، بالأماكن التي شمّ عبيرها واستنشق أجواءها؛ وإذا ما برحها سيصاب بخيبات الأمل، وخسارة فادحة تظل مصاحبة له بقية حياته، لا يردم هوّتها إلّا الموت.
القاص كريم جبار الناصري، صوّر لنا في هذا القصة صورة مركبة، من الأسى والسرور، من السرور والمرح، وصبها في قالب متين تكسوه المتعة الذهنية، بحيث وأنت تقرأه تشعر بجمالية أخاذة، سواه في رص الجُمل واختيار المفردات، بدقة وعناية، أو بالسردية غير المملة والتي قد تصيب القارئ بنوع من السأم، لولا حذاقة الكاتب باختيار تلك المعاني بحرفية عالية، تدل على باع طويل، وخبرة عالية بالخوض في مجال كتابة القصة، وأنّه متمكن من ادواته في الصياغة لرسم الجمال، الذوقي والفني. فالجُمل نجدها متراصة متماسكة، بما هو مقدّر للكاتب الفطن الواثق من نفسه في خوض غمار الابداع، بثقة وشجاعة عاليتين.
يرى الكاتب والناقد محمد يونس إنّ: "القصة القصيرة نفس اجتماعي بمذاق ادبي، فإن ازحت النفس توقفت رئة النص، وإذا ابعدت المذاق فقدت التمييز". وإذا أردنا إن نطبق هذه المقولة الجزيلة على قصة كريم جبار الناصري، تطبيقا عمليا وفق هذا الشرط، من كون القصة مذاقا أدبيا، يمتاز بنفس – حية واعية -يخرج من رئة النص، وبتوقفه أو ازاحته يفقد المذاق تميزه؛ فأكيد النص سيموت، وبموته لم يبق للذوق معنى يرتكز عليه.
ومن وجهة نظري البسيطة، أرى إنّ القصة هذه الموسومة بـ "ذاكرة بين ضفاف دجلة" لم تفقد الشرط الذي حدّده الكاتب محمد يونس؛ فالذي يمعن النظر بسردية القصة، وبشكلها الفني وايقاعها التصويري، سيرى، وبأم عينه، ما ندعيه من كلام آنف الذكر، بوصف القصة أنها متماسكة بإيقاعها، وبنائها السردي والجمالي، وأعتقد إنّه سيشاطرني الرأي، بعيدًا عن التحيز أو الميل يمينا وشمالا.
نص القصة:
اخترقته الرزايا حين وطأة قدماه شوارع المدينة بعد أمنيات مبهرة لأبن الريف، مدينة ذات وجوه متشابهة النظرات والمتوسمة بملامح عوالم السرمدية. كان له سفر مجنون لغربة لا يعرف مداها لعله يطوي صفحة من ليال معتمة لماض قريب، أو نسيان لوعة مرت به. سفر أراد به أن يعثر على بقعة ضوء تنير دربه القادم.
دوامة المدينة تلفه بهذيانها، يعصر روحه الخضراء الباحثة عن عنوان سلام عبر مسافات الزمن، ليكون ديدنه بصمة حب غير مرئي والتحليق بفضائه، رافعا غصن زيتون لحلم يريده، لكن الحلم لم يتحقق. سار عكس اتجاه الدرب لا ينظر إلى الخلف كي ينجو من سقطة هاويات المدينة المخيفة، والمتفشية في شوارعها. صار قلبه كلون الثلج من رزاياها، جعلته كنبات الإسفنج حين يُعصر يسقط ما بداخله. وفي توهان الدروب ثمة أصوات تطن بسماعه:
-لا جدوى من هذا الاتجاه
-أنا اختار
-أين نهايته؟
-النجاة بحلم ما
أسرع الخطى، فطلاسم كثر حاولت تسلق جسده. كي تتربع على قمة جمجمته لتلتهم ما تبقى من ذاكرته، بينما هو يبصر جوانب المدينة من فوق احد جسور دجلة إلى أين يتجه؟ قدحت فكرة جنونية بذهنه. حلق بفضاء النهر ليغفُ ما بين ضفافه.