الكتابة والحرب في كتاب -مساحة شخصية، من يوميات الحروب على فلسطين- للكاتب فراس حج محمد


رائد الحواري
2024 / 1 / 17 - 23:04     

أجزم أن الكتابة في الحرب من أصعب الأعمال التي يقدم عليها الإنسان، فهي تحتاج إلى طاقة، وقدرة، وقوة، وإرادة، ونفسية استثنائية، من هنا نجد قليلة هي الأعمال التي تحدثت عن الحرب، لكن تستوقفنا تجربة الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، حيث كان من أكثر الأنظمة التي عملت على إرسال مراسلين حربيين إلى الجبهات، من هنا وجدنا كمّاً هائلاً من الأعمال الأدبية تتحدث عن الحرب وبطريقة أدبية متميزة، أعتقد أن ثلاثية قسطنطين سيمونوف "رحى الحرب، الأحياء والأموات، الصيف الأخير" خير مثل على ذلك.

فلسطين تخوض وشعبها الحرب منذ بداية القرن الماضي حينما دخلها الإنجليز كمحتلين، وعملوا على تأسيس الكيان الصهيوني فيها، لهذا وجدناها من أكثر المناطق كتابة عن الحرب، إن كان في الشعر أو القصية أو الرواية، أو حتى في التقرير الصحفي، "فراس حج محمد" كتب عن الحرب في أكثر من كتاب، فقد خصص ديوانه "مزاج غزة العاصف" ليتحدث عن العدوان على غزة قبل 2015، وتحديدا عن حرب 2014، وكتب ديوان آخر أصدره نهاية عام 2023 "في أعالي المعركة" وكتابه النثري "مساحة شخصية، من يوميات الحروب على فلسطين" وهذا يقودنا إلى أهمية الدور الذي يلعبه "فراس حج محمد" ككاتب وكشاعر فلسطيني يكتب أثناء الحرب وعن الحرب، وبهذا يكون "فراس" قد تجاوز فكرة الحرب التي تجعل الإنسان غير قادر على القراءة، فكيف بالكتابة؟

من هنا سنحاول إيضاح كيف تؤثر الحرب على الكاتب، وكيف تعامل معها، يقول: "هل الأدب من فائدة في مواجهة وحش الموت الذي استبد بكل شراسة التاريخ المعهودة وغير المعهودة لدى المستعمرين؟ أظن أن الحرب لا تفتح شهية أحد على أن يقول شعرا، أو يكتب قصة، أو يستعدّ لكتابة رواية، ثمة انتهازية ما في هذا الأمر، أنت تكتب والناس تصعد للأعالي بالمئات، إنه لأمر مخجل حقا، مهما كانت هذه الكتابة" ص165، في هذا المقطع نجد أن أثر الحرب على الكاتب/ الشاعر يكون هائلا، وذلك لأنه ابن هذا الشعب، وثانيا لأنه شاعر/ أديب يتأثر بأي شيء وأي حدث، فما بالنا عندما يرى مئات الشهداء يصعدون إلى السماء يوميا، وآلاف البيوت التي تدمر، لهذا نجده يتراوح بين الجلوس ساكنا/ متفرجا/ متألما/ متأثر بما يجري، وبين أن يجد طريقة/ وسيلة تشركه في الحرب، لهذا وجدت المرأة، فهو الوسيلة التي ستحرره من السكون والجمود ليكون فاعلا ومؤثرا: "لا شيء يربطني إذاً بأخبار الحرب، أعتدت أن أنفيها من لغتي، ومن كتبي، لا أريدها أن تشاركني تاريخي الشخصي في الكتب أكثر مما كتبت، أقاومها بالحديث عن الحب، عن شهوتي لامرأة تركتني عن عمد وأخرى أجبرتها الظروف على فعل ذلك، وأن أكتب عن امرأة تنصب أشراكها حولي وترنو إليّ لتنام معي، لا تنسى الحرب بل لتشبع من شهوتي المحتدمة، هذا بالفعل قضيتي لأنسى الحرب وأهزمها لكي لا تدمر ما تبقى من خيالي المخصب بالخيال". (ص 130)

هناك حقيقة تتمثل في أن المرأة أحد أهم العناصر التي يلجأ إليها الشاعر/ الكاتب وقت الشدة/ القسوة، والكاتب هنا يحتاجها ليس للجنس/ للشهوة، بل لتخرجه من واقع الحرب المؤلم، وهذا ما

أكده حينما قال: "لا شيء يربطني إذاً بأخبار الحرب، أعتدت أن أنفيها من لغتي، ومن كتبي، لا أريدها أن تشاركني تاريخي الشخصي" من هنا رغم أنه يتحدث عن المرأة، إلا أنها بالنسبة له وسيلة/ أداة للتخلص من الحرب وهولها، فهو يريد أن يمارس دوره كشاعر فلسطيني وكأديب، لهذا لا يريد المباشرة في الطرح، ويريد للغته أن تبقى نقية/ أدبية بعيدة عن الصوت العالي والطرح العادي.

فالمرأة وسيلة لنقاء اللغة، ووسيلة لبقاء الأديب/ الشاعر أديبا وشاعرا نبيلا، لهذا نجده يخجل من تقديم ما أصدره من أعمال أثناء الحرب: "في الحرب صدر ديواني "في أعالي المعركة" وكتاب "تصدع الجدرانـ عن دور الأدب في العتمة" وعلى مشارف الحرب، قل أن تبدأ بأيام صدر كتابي "في رحاب اللغة العربية" لا وقت لغير الحرب والشهداء، نشرت تقريراً عن الكتاب، على نطاق ضيق، ثمة مادة حول الكتاب طلبت مني محررة صحفية "الحدث الفلسطيني" الشاعرة رولا سرحان تأجيل نشرها، بالفعل كنت خجلا مترددا عندما أرسلتها للنشر، لم تنشر بعد، لأن الحرب ببساطة لم تغير أمزجتها وتموت أو تنتهي أو تخمد إلى حين... أخجل من الحديث خارج الحرب... فماذا تساوي هذه الكتب أمام معركة المصير المفتوحة في غزة، أفكر في السؤال الجديد لماذا نكتب نحن الشهداء مع وقف التنفيذ؟". (ص 149)

إذا ما توقفنا عند ما جاء في هذا المقطع سنجده (شكليا) يتناقض مع ما جاء في حديث الأديب عن المرأة، لكن إذا ما توقفنا وقرأنا ما هو أبعد من الذي يظهر على سطح الكلمات، سنجده هذه رؤية للكاتب ودوره أثناء الحرب، فهو يتأثر بها، ويريد أن يكون مشاركا فيها، لهذا أوجد لنفسه هذا المساحة الشخصية ليحرر أدبا فلسطينيا/ وطنيا/ قوميا ويحدد موقفه عن الحرب.

إذن انطلق الشاعر/ الأديب/ الكاتب "فراس حج محمد" وكتب في أكثر من مجال، متناولا ودون هوادة كل ما هو متعلق بالحرب وبالتخاذل العربي الرسمي، دون أن يحسب حساباً لأيّ كان، فكان موقفه واضحا من دول الجوار التي تسهم في حصار الفلسطينيين، وتدعم الاحتلال، وكذلك من عقم أوسلو وما أحدثه من خراب في المجتمع الفلسطيني، وقدم مجموعة من الحقائق متعلقة بالاحتلال وطبيته العنصرية، وأداة للاستعمار الغربي، وعن رؤيته كشاعر تنويري لما يجري في غزة: "إن الرجال في غزة لا يموتون، إنهم يصنعون لنا حياة جديدة، ومن حقهم علينا ألا نحزن، بل علينا أن نفرح لانتصاراتهم الكبيرة غير المتوقعة". (ص125)

وهذه الرؤية تسند الشاعر وتسند القارئ الذي بالتأكيد يتألم ويحزن/ ويغضب على ما يجري من قتل ودمار، فالكاتب بهذه الرؤية أكد أن له دوراً ككاتب/ كشاعر لا يقل عن دور المقاتل في المعركة، وما إصداره "مساحات شخصية"، وما فيه من أفكار وقصائد ورؤية ولغة وطريقة طرح إلا تأكيد أنه يقوم بدوره كأديب وكفلسطيني.

الكتاب من منشورات دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، فلسطين، الطبعة الأولى، 2024.