السرد وطريقة تقديم الأحداث في رواية -الآن في العراء- حسام الرشيد
رائد الحواري
2024 / 1 / 12 - 00:05
السرد وطريقة تقديم الأحداث في رواية
"الآن في العراء"
حسام الرشيد
الأدب أفضل حافظ للتاريخ، لأنه يقدمه بطريقة ناعمة/هادئة بعيدا عن المباشرة والصوت العالي، فرغم ما في تاريخنا المعاصر من مآس وهزائم إلا أن الشكل/الطريقة الأدبية التي يقدم بها تجعله جميلا، وهنا تكمن أهمية الأدب، تقديم موضوع قاس بصورة جميلة، وهذا يسهل على المتلقي تناول الفكرة وتقُبلها رغم ما فيها من وجع.
في رواية "الآن في العراء" يتحدث السارد "نصر" عن مجموعة من الشباب: "سليم وجيتان، وعد وأمل، نجيب وميادة، نصر وسماء" مرت بتجربة الحب، وكلهم يفشلون في إتمام الحب بالزواج، منهم من كان ينتمي لأحزاب سياسية: نجيب، نصر" ومنهم من كان يتعاطى الفن "أمل" منهم من كان انتهازي "سليم" ومنهم من كان غني "جيتان" وغالبيتهم كان من عامة الشعب، هذا على صعيد الشباب، لكن كان هناك الأب المقاتل الذي حارب في القدس واستمر محتفظا بتلك الذكريات مصرا على إكمال المعركة وتحرير القدس من مغتصبيها.
هذا الأب كان ناصري، يعتبر عبد الناصر قدوته، من هنا كانت صورته معلقة في صدر البيت، ويردد مقولة: "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة" ورغم موقفة السلبي من المظاهرات والمسيرات إلا أنه يقرر المشاركة في مسيرة ضد الحرب على العراق رغم أنه يسير بواسطة كرسي متحرك، وهذا الفعل يمثل دعوة للشباب اللذين أخفقوا في العمل، في الحب والسياسية ليستمروا في مسيرتهم، الاجتماعية والسياسية ليحققوا هدفهم.
الأب
هذا الخط العام في الرواية، لكن إذا ما توقفنا عند التفصيل، سنجد العلاقة المتينة تتمثل بأسرة نصر، حيث كان الانسجام/التوافق شبه كامل بين أفراد الأسرة: "الأب، الأم، نصر، أمل" وهنا يستوقفنا الموقف الإيجابي من الأب، فالنظرة سلبية للأب تكاد تعم الرواية العربية، وذلك لاقترانه مع النظام الرسمي العربي، لكننا هنا نجده بصورة إيجابية، وحتى مطلق الإيجابية، لكنه يبقى إنسان، يفرح ويحزن، يتقدم ويتأخر، وهذا يعود للظروف التي تمر بها المنطقة وانعكاسها عليه، بعد حرب الخليج وانكسار العراق أمام القوى الغربية والعربية المعادية كان هذا المشهد: "رأيت أبي جالسا على كرسيه المتحرك في الصالة، لم أحضر له الجريدة في هذا المساء، قبل أيام عدت إلى البيت، فقال لي: لن أقرأ جريدة بعد هذا اليوم، الحرب انتهت، ربما انتهت اللعبة، أخبارنا لم تكن سوى محض أكاذيب، وعنترياتنا ليست إلا حبرا على ورق، كان شاخص البصر إلى صورة رفاقه الخمسة الذين استشهدوا في حرب حزيران، تلك الحرب التي.. ويتجلى الدمع في عينيه، بيديه يتحسس مكان ساقيه المبتورتين، كأنهما لم تبترا بعد، يحني جذعه إلى الأمام، يتأهب للنهوض، وربما إلى المشي في خط مستقيم إلى آخر الدنيا.
لم أستشهد في تلك الحرب لأستريح، ولم أشهد تلك الويلات التي ابتليت بها الأمة، من حرب تلد أخرى، ولهاث إلى سلام، لا يسمن ولا يغني من جوع" ص150، اللافت في المشهد الرمزية التي تأخذنا إلى الماضي، فمن قاتل في الماضي هو الآن كسيح/عاجز، ومع هذا نجد هذا الجندي/المقاتل العربي ما زال يتألم للهزيمة التي حدثت في حزيران، وما زال وفيا لرفاقه الشهداء لهذا نجد صورتهم معلقة في منزله، فهي تمثل ضمير الأب الذي ما زال حيا، لهذا نجده يتمنى الشهادة كرفاقه.
وعندما يحدثه "نصر" عن مسيرته ضد الحرب على العراق يرد عليه: "ما يؤخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة" ص219، وهو بهذا يتماثل مع قناعته ومع تجربته في حرب حزيران، وأيضا يؤكد مقولة عبد الناصر ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"
وبعد أن يتم اعتقال "نصر" بسبب المسيرة نجد الأب يتجاوز عجزه ويزور "نصر" في سجن ماركا: "أبي خرج عن صمته وحزنه عندما خرج في المسيرة، لم يقف مكتوف اليدين، آلمه ما حدث لي، آه كبيرة انحشرت في حلقه، وهو يراني أساق في قلب الظلام كالمجرمين العصاة، على مدى أسبوعين لم يتوقف عن زيارتي في سجن ماركا مع أصدقائه، من جمعية المحاربين القدامى الذين قاموا بتوكيل محام لي للدفاع عني وعن باقي رفاقي" ص230، بهذا الفعل يعطي الأب دفعة معنوية للشباب ليواصلوا مسيرتهم ولا يتوقفوا أمام "مسيرتهم" التي انتهت بالاعتقال، فتحرك الأب ومواكبته على زيارة "نصر" ولمدة أسبوعين وهو ورفاقه هي إشارة/دعوة للحركة، للفعل رغم الصعاب والمعيقات. هكذا نفهم حركة الأب ومشاركته في المسيرة والدفاع عن ابنه المعتقل.
عبد الناصر
اللافت في الرواية أنها تتناول عبد الناصر في أكثر من مُوضع، حتى بدا وكأنه الوحي الذي يسترشد به الأب لإتمام رسالته وتصليح ما حدث عام 1967، ولم يقتصر الأمر على الأب، فنجد السارد "نصر" يؤرخ ميلاده بموت عبد الناصر: "قبلها بأيام مات عبد الناصر، أمي كانت مع أبي ذلك النهار المنقوش في ذاكرتها، عمري أنا كان أقل من عام، على صدرها كنت، بيد تهدهدني وبالأخرى تجر كرسي أبي، الذي احتضن تلك الصورة وبكى.
مات عبد الناصر، لم يصدق أبي أنه مات، صورته بقيت في حجره لأيام، ظل يهذي بأن أخبار الإذاعات الموشحة بالسواد عن موته هي مجرد تكتيك عسكري لخداع العدو، ما يزال الكثير من الوقت حتى يذهب إلى القبر، لم ينتقم من العدو بعد، سيرد الصاع صاعين، لا مجال لهزيمة أخرى، وسيعود يا أم نصر" ص121و122، اقتران موت عبد الناصر بميلاد "نصر" له علاقة بتكملة مسيرة عبد الناصر، وإلا ما تحدث عنها السارد الذي كان حينها رضيعا، وما سرد لنا هذه التفاصيل عن حياته وعن الحدث الجلل والمفصلي في تاريخ العرب المعاصر، ونلاحظ أن السارد يتحدث بتفاصيل عن المهام الموكلة بعبد الناصر التي يجب أن يقوم بها، كل هذا يؤكد انحياز "نصر" لعبد الناصر ولنهجة، رغم أنه ينتمي لحزب ماركسي.
الأحداث
يتناول السارد مجموعة من الأحداث أبرزها "أم المعارك" التي خاضها العراق منفردا ضد تحالف الدول الاستعمارية مع الدول الرجعية العربية، كما أنه يتحدث عن هبة نيسان ودورها في إنهاء الأحكام العرفية في الأردن وإحداث انفراج سياسي أتاح للأحزاب أن تخرج من تحت الأرض وتعمل جهارا، يحدثنا السارد عن بداية الانفراج السياسي من خلال هذا المشهد: "ـ لعل التنظيم الإسلامي كان من أكثر التنظيمات اقترابا من وجدان الناس، اكتسح مقاعد المجلس النيابي في انتخابات عام 1989، دغدغ العواطف بشعار "الإسلام هو الحل"
قلت مقاطعا
ـ والأحزاب الأخرى ولا سيما القومية، سيكون لها الدور الأهم، في محاربة التخلف، والفساد، والقوى الرجعية في المجتمع.
قال نجيب:
ـ لقد جرتنا جميعها إلى الانهزامية
قال سليم:
هذه الأحزاب تسعى وراء مصالحها، ولا أستثني أيا منها، تجري وراء المال والسلطة والصيت الذائع،
قلت:
ـ الله يرحم أيام وصفي التي!
انخرطنا في نقاش، نجيب تسري الشيوعية في دمه الشيوعية التي ورثها عن أبيه الرفيق القديم الذي سجن أيام عبد الناصر في سجن الواحات مطلع الستينات، إبان دراسته الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة، انخرط بالعمل الحزبي في مطلع شبابه، وزع المنشورات السرية المنددة بحلف بغداد، وحمل يعقوب زيادين الكركي على كتفيه، حين فاز بانتخابات البرلمان عن القدس، وعندما وقعت معاهدة كامب ديفيد، لم يصدق ما حدث، انقطع إلى كتب الفلسفة والغيبيات والماورئيات، انقطاع الرهبان في معابدهم" ص86و87، اللافت في هذا المقطع أنه يعطي صورة موجزة عن تاريخ المنطقة، فهناك حلف بغداد، قمع الشيوعيين في مصر، وحدة الضفة الشرقية مع الضفة الغربية، اجتماعية الأردن من خلال فوز "يعقوب زيادين المسيحي ابن الكرك في مدينة القدس، الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 1989 بعد انقطاع دام أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، حيث كانت آخر انتخابات جرت في الأردن عام 1956، نقاشات الشباب والحيوية التي يتمتعون بها رغم وجود أفكار انتهازية يطرحها "سليم" الذي يعتبر كتاب "الأمير" ل"ميكافيلي قرآنه المقدس، بهذا الشكل استطاع السارد أن يقدم صورة عن تاريخ الأردن المعاصر بعيدا عن التقرير الصحفي الجاف الذي يمتعض منه القارئ وينفر منه.
كما تناول اتفاقية أوسلو ووادي عربة بطريقة ذكية مؤكدا أنها انكسارات جديدة وهزائم للأمة: "كنت أنصت إلى الرفيق أنيس، كانت كلماته تنز ألما، قطار السلام سيمر حاصدا مزيدا من الخسارات، الأمريكيون وحلفائهم مزقوا شمل الأمة، واقتصاديات الدول العربية تعاني من غياب التخطيط ونهب الثروات، الاتحاد السوفيتي هو حليفنا الأبدي، ولكن للأسف مع وصول غورباتشوف إلى السلطة، تمزق إلى كيانات متناحرة، وهو يروج لإنجيل ثورته الجديد كتاب "البيريسترويكا"" ص209و210، اللافت في هذا المقطع انه ينبه/ينوه إلى الخراب الذي سيحدث بعد انزلاق الحكام العرب إلى عقد اتفاقيات سلام مع العدو، فما حدث في العراق من احتلال، وخراب سورية وليبيا واليمن، وما كشف التعاون والتحالف بين دول الخليج النفطي ودولة الاحتلال إلا ناتج وتابع لتلك الاتفاقيات التي أقدمت عليها دول المواجهة، مصر، الأردن، منظمة التحرير.
كما أننا نجد شيئا عن الاتحاد السوفييتي ودور غورباتشوف في خراب الاتحاد ومن ثم هيمنة الغرب وأمريكيا تحديدا على العالم، كل هذا يقدم بصورة روائية أدبية ناعمة.
السرد الروائي
الرواية بمجملها جاءت من خلال "نصر" الذي سرد الرواية كاملة وأعطى لنفسه (الحق) في الحديث عن كل الشخصيات، حتى انه تحدث عن طفولته وليس من خلال أمه أو أبيه، فهو ينساق وراء الأحداث حتى انه اندمج فيها، من المشاهد التي انمج فيها السارد هذا المشهد: "في الليل تجسدت لي هذه الأوراق كأفعى ضخمة، تلف حول جسدي وتعصره حتى الموت، مرارا كنت أنظر إلى النافذة، لا مفر من الانتظار حتى مطلع الفجر، لأى خيوطه البيضاء تنثال من النافذة كبشرى من عهد قديم.
لما دخلت إلى الصالة لم أجد أبي جالسا في مكانه، ليلة البارحة سمعته وهو يرتل القرآن الكريم، يعد أن توقف عن نشيجه الليلي، صار القرآن هو الشفاء من آلامه، يرتله في قلب الليل بصوت خاشع رخيم.
استغرقني الفضول إلى أين ذهب أبي؟ في العادة لا يخرج إلا برفقه أمل، في الأيام الماضية طالت لحيته، عيناه غارتا في وجهه المخدد" ص222، إذا ما توقفنا عند هذا المشهد سنجد أن السارد (انساق/انجر) وراء الآية القرآنية "سلام هي حتى مطلع الفجر" فرغم أن المشهد كان يتحدث عن المسيرة التي ستجري في الجامعة واضطراب "نصر" إلا أنه خرج عن وصف حالته وأخذته الآية القرآنية ليتماهى معها متحدثا عن أبيه وترتيله للقرآن الكريم وذهابه للصلاة وإطالة لحيته، مما جعل فعل الأب وكل ما هو متعلق به ناتجا عن الآية "حتى مطلع الفجر" هذا التماهي بين السارد والأحداث، بين السارد وسرد الرواية، هو ما جعلها سلسة وسهلة التناول، فقد قدم الأحداث بطريقة مقنعة، وجعلنا ننسجم معها، وحتى نتبناها من خلال قدرته على التحدث حتى لو كان بأصوات أخرى، فعندما كان يتحدث بهجت أو نجيب أو أمل أو والده كان كلامه مقنعا.
المكان
تدور أحداث الرواية في عمان تحديدا، حتى أنه أعطانا تفصيل دقيقة عنها، وهذا يشير إلى العلاقة الحميمة التي تجمع السارد بالمكان الذي تناوله بأكثر من موضع.
وما وجود توازن بين الشخصيات النسائية والرجال في الرواية إلا من باب رؤية السارد المحببة لعمان، وكأنه من خلال الشخصيات التي غلب عليها الحالات الإيجابية أكد نقاء وصفاء عمان من الشواذ/المخربين، وما عودة "سيلم" إلى جادة الصواب إلا من باب الرؤية الجميلة لعمان وسكانها.
الرواية من منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى 2023.